فلسفة الاختيار في الوجود الإنساني
محمد محفوظ ..
الإنسان الذي يتحرر من كل الضغوط والأغلال، ويمارس حريته بوعي، ويقرر خياراته بقصد، هو وحده من يتحمل كل المسؤوليات المتعلقة بخياراته وقراراته.
ثمة مفاهيم ومصطلحات ثرية من الناحية الفلسفية والمعرفية والسياسية، إذ إن البحث في مضمونها وآفاقها، يوصل الباحث إلى تخوم علوم ومعارف وتخصصات علمية عديدة.. ولعل من هذه المفاهيم الثرية والغنية بحمولتها الفلسفية والمعرفية والسياسية مفاهيم الحرية والعدالة والمسؤولية، فهي من المفاهيم التي تشكل حجر الأساس في منظومة الكثير من القيم والمبادئ الفرعية..
ولا يمكن أن نبحث أي مبحث فلسفي أو معرفي أو سياسي، دون الاقتراب من مضامين هذه المفاهيم.. بل هناك العديد من النظريات والمذاهب الوضعية، التي تشكلت واكتمل بناؤها المعرفي على قاعدة هذه المفاهيم..
وإن بعض التباين أو الاختلاف بين هذه النظريات والمذاهب الوضعية، يعود إلى التباين والاختلاف في طبيعة العلاقة بين مفهوم الحرية، ومفهوم العدالة.. فالحرية في بعدها الفردي تعني أن يعيش الإنسان الفرد حراً أي بدون قيد أو شرط يحد أو يعيق حريته.. أما إذا نظرنا إلى الحرية بمعنى مجموع الحريات السياسية والاقتصادية والثقافية، فنحن هنا بحاجة إلى تدابير أخلاقية ومؤسسية لحفظ حقوق الناس الذين يشكلون مجتمعاً واحداً وهذا لا يتحقق بدون العدالة.. فالحرية كقيمة متداخلة في أبعادها وآفاقها مع العدالة كقيمة وممارسة.. ولا يمكن على مستوى الواقع الخارجي من تحقيق أحدهما دون الآخر.. فالحرية هي حجر الأساس لمفهوم العدالة، إذ لا عدالة بدون حرية، كما أن العدالة هي التي تثري مضمون الحرية في أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إذ لا حرية حقيقية في أي تجربة إنسانية بدون عدالة، كما أنه لا حرية حقيقية ولا عدالة ناجزة بدون مسؤولية ذاتية.
وحتى تتضح صورة العلاقة بين الحرية والعدالة، نقترب من المفاهيم والمعاني المتداولة لمفهوم الحرية.. إذ ذكرت تعريفات عديدة للحرية وأوصلها (آيزايا برلين) في كتابه (حدود الحرية) إلى مئتي تعريف، إلا أن الجامع المشترك بين أغلب هذه التعريفات هو إزالة المعوقات من طريق اختيار الإنسان.. وهو يقول في تعريفه لها (إنني أعد الحرية فقدان الموانع من طريق تحقق آمال الإنسان وتمنياته)، ويرى في موضع آخر من الكتاب بأنها تعني عدم تدخل الآخرين في أنشطة الفرد وأعماله.. فالحرية وفق (آيزايا برلين) هي جزء من الذات البشرية، أي أن طبيعة الإنسان تنزع نحو الحرية، لأنها جوهر الإنسان، وهو (أي الإنسان) موجود ساع نحوها، وهذا معناه أنها من لوازم إنسانيته.. وحرية الأفراد بطبيعة الحال ليست مطلقة، لأننا لو أطلقنا حرية الأفراد، فإن مجموع هذه الحريات ستتعارض وتتناقض ما يحول دون أن يعيش أحد مع أحد، أي أننا لا نستطيع أن نؤسس مجتمعا..
والمجتمعات الإنسانية لا تتأسس إلا على قاعدة التفكيك بين الحريات الفردية ومصالح الآخرين.. إذ إن المجموع الإنساني يحتاج إلى صيانة وضمان حرياته الفردية، ولكن على نحو لا يضر بمصالح الآخرين النوعية.. والمظلة التي تستظل بها مصالح الآخرين النوعية هي قيمة العدالة.. وطبقا لرؤية (جون ستيوارت مل) فإن العدالة تتطلب تنعم الأفراد بالحد الأقل من الحرية، ومن هنا يجب في بعض الأحيان، ولو عن طريق الإجبار منع صيرورة حرية بعض الأفراد مخلة بالحريات للآخرين.. ويتحدث (آيزايا برلين) في كتابه الآنف الذكر عن هذه الحقيقة بقوله (تنقلب الحرية السلبية أحيانا إلى القول بتساوي حرية الشاة والذئب، فإذا لم تتدخل القوة القاهرة فإن الذئاب سوف تقوم بافتراس الأغنام، ومع ذلك لا يجوز أن يصنف هذا مانعاً للحرية. نعم إن الحرية اللا محدودة للرأسماليين تفضي إلى إفناء حرية العمال، والحرية اللا محدودة لأصحاب المصانع، أو الآباء والأمهات، تؤدي إلى استخدام الأولاد في العمل في مناجم الفحم الحجري..
لا شك في أنه ينبغي حماية الضعفاء أمام الأقوياء والحد من حرية الأقوياء على هذا الشكل.. ففي كل حالة يتحقق فيها القدر الكافي من الحرية الإيجابية لا بد من الإنقاص من الحرية السلبية، أي أنه يجب أن يكون هناك نوع من التعادل بين هذين الأمرين حتى لا يجري أي تحريف للأصول المبرهنة).. فاللإنسان كامل الحرية في قناعاته وأفكاره واختياراته، ولكن ليس له الحق في التعدي على قناعات الآخرين واختياراتهم.. وإذا كانت اختياراته تضر بالآخرين فإنه ومن منطلق العلاقة الحميمة بين الحرية والعدالة، يمنع من اختياره الضار إلى المجتمع لصيانة قيمة العدالة.. فالعلاقة جد دقيقة بين الحرية والعدالة، وعليه لا يصح باسم المجتمع من امتهان كرامة الإنسان الفرد أو التعدي على حريته، كما أنه لا يصح باسم حرية الإنسان من التعدي على حريات الآخرين.. فالحرية قيمة إنسانية كبرى ولا تحد إلا بقيمة إنسانية كبرى مثلها وهي العدالة..
من هنا لا يصح ولا يجوز لأي إنسان أن يجبر الآخرين على القبول بعقيدة معينة أو فكرة محددة.. فمن حق الإنسان (أي إنسان) حق التفكير والتأمل، ولا يمكن لأي أحد أن يفرض رأيه أو عقيدته عليه.. فاللإنسان كامل الحق في الاختيار، وهو الوحيد الذي يتحمل مسؤولية اختياره.. فالله سبحانه وتعالى وهبنا حق الاختيار في ظل المسؤولية.. فلنا حق الاختيار وفق الإرادة الربانية، وعلينا أن نتحمل كامل المسؤولية في الدنيا والآخرة لاختيارنا.. والله سبحانه وتعالى لم يمنح أحدا سلطة اتخاذ القرارات والتدابير نيابة عن أحد.. فللإنسان كامل الحق والحرية في الاعتقاد والاختيار، ولكن ممارسة هذه الحرية تكون في نطاق العدالة والمسؤولية.. لهذا هو وحده الذي يتحمل مسؤولية اختياره وعمله..
وبهذا نخرج الإنسان من دائرة القوانين الجبرية، وندخله في دائرة الحرية والمسؤولية.. فهو حر ومسؤول في آن واحد..
وفي تقديرنا أن المجتمعات التي تتمكن من صياغة العلاقة على نحو دقيق بين الحرية والعدالة، هي المجتمعات التي تنعم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي.. أما المجتمعات التي لا تتمكن لأسباب ذاتية أو موضوعية من صياغة العلاقة بين الحرية والعدالة على نحو إيجابي، فهي مجتمعات ستعاني من صعوبات كبرى في استقرارها وأمنها الاجتماعي والعام..
فعلى قاعدة الحرية بكل حمولتها القيمية وآفاقها الإنسانية، يتحقق الإيمان العميق.. بمعنى أن الإنسان كلما ازداد عبودية لله تعالى بوصفه القوة المطلقة والقادرة على كل شيء، تحرر هذا الإنسان من عبودية العباد، وانعتق من كل الأغلال والإكراهات، لأنه اتصل وتعلق قلبياً وسلوكياً بقدرة لا متناهية، تمده، ويستمد منها القوة للتحرر المعنوي والمادي من كل الأغلال والقيود..
فالإيمان الحقيقي لا يبنى إلا على قاعدة الحرية والقدرة على الاختيار.. وبالتالي فإن الإنسان وحده، هو الذي يتحمل مسؤولية خياراته وقراراته.. فالعلاقة بين قيم الإيمان والحرية والمسؤولية وفق الرؤية الإسلامية علاقة عميقة ومتداخلة، ولا يمكن التفكيك بينهما.. فالحرية هي التي تعيد للإنسان إنسانيته، وهي التي تقوده إلى الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى، لكون الإيمان وتشريعاته منسجمة وفطرة التكوين المركوزة في الإنسان.. وبالتالي فإن هذا الإنسان الذي يصنع حريته ويمارس اختياره هو وحده من يتحمل مسؤولية اختياره..
والمسؤولية هنا مسؤولية ذاتية، بمعنى أن الإنسان الذي يتحرر من كل الضغوط والأغلال، ويمارس حريته بوعي، ويقرر خياراته بقصد، هو وحده من يتحمل كل المسؤوليات المتعلقة بخياراته وقراراته.. وفي هذا السياق قد تكون قيمة العدالة، هي الوجه الآخر لقيمة المسؤولية.. أي لكوننا مسؤولين عن اختياراتنا، فالله سبحانه وتعالى سيحاسبنا على ضوء هذه الاختيارات الحرة، وهذا هو عين العدالة.. بمعنى أن الإنسان لا يحاسب إلا على أعماله الذاتية، والتي اتخذها بحرية تامة، وبدون إكراهات وضغوطات..
لصالح صحيفة الرياض
أضيف بتاريخ :2016/08/23