عنف أم إجرام؟
كان صعود تنظيم «داعش» نقطة مفصلية في تغيير السياسات وقلب المعادلات في المنطقة، التي كان مخطّطاً لها أن تدخل في مرحلة من الفوضى لمدة ثلاثين عاماً مقبلة.
كان واضحاً أن هناك جهات أيّدت وأسرجت وألجمت وهيّأت الأرض لبروز «داعش» في العراق وسورية، ودعمت بالمال والسلاح. لكن ما لم تضعه في الحسبان -على رغم تكرار التجارب مع تنظيم «القاعدة» في أفغانستان- أن يأتي يومٌ ينقلب فيه السحر على الساحر.
السبب الأكبر للانقلاب على «داعش»، هو ما مارسه من عنفٍ وإجرام فاق التصورات، فقد تفنّن هذا التنظيم الإرهابي في طرق القتل والذبح والحرق والرمي من الأبنية، والإغراق في الماء، وآخر إبداعاته السحق تحت عجلات الدبابات.
كلُّ هذه الطرق العنيفة جدّاً، صدمت الرأي العام العالمي؛ لأن غالبيتها غير مسبوق، على رغم أن العالم جرّب حربين عالميتين كبريين خلال القرن الماضي، إلى جانب مئات الحروب الصغرى، ذهب ضحيتها عشرات الملايين، غير الجرحى والمشوّهين جسديّاً ونفسيّاً، وحالات الأسر الجماعي والاعتداء الجنسي على النساء.
«داعش» لم تأتِ من الخارج، وليست بقايا جيوش أجنبية، وإنّما هي نتاج بيئتنا العربية والإسلامية المتخلّفة، فغالبيتهم من أبناء هذه المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، وما حولها من طوق إسلامي. بل إن النواة الصلبة لهذا التنظيم الإرهابي، هي بقايا جيش وضباط مخابرات النظام العراقي الدكتاتوري السابق. ولم يكن مستغرباً أن يلقى بيئةً اجتماعيةً حاضنةً في بعض مناطق العراق، ساهمت في سرعة سيطرته على ثلث مساحة العراق خلال يومين، فضلاً عن تخاذل قيادات الجيش والمحافظات والحكومة العراقية.
لم يكن العنف الذي تكشّف عنه «داعش» مستورَداً، أو نتاج ثقافة أفلام العنف، وإنّما نتيجة ثقافة محلية، ذات جذور عميقة في تاريخنا العربي الإسلامي.
من السهل أن نلقي بأوساخنا كاملةً على الدول الاستعمارية لنخلي طرفنا تماماً من أية محاسبة للذات، ومن السهل أن نبرّئ أنفسنا بتعليق كل مصائبنا وكوارثنا على شماعة المؤامرات الأجنبية. فمشكلتنا وأزمتنا نابعةٌ أساساً من الداخل، ومن ثقافتنا الاستبدادية التي تقوم على الطغيان وإقصاء الآخر وقهره، وسلب حقوقه وتجويعه... وحتى سلب حقّه في الحياة.
هذه الثقافة تتلبّس بلباس الدين، لتتخذه غطاءً للروح الجاهلية، والنزعة القبلية والعنصرية. فالإسلام الذي جاء مبشّراً بولادة عصر عالمي جديد، يقوم على الرحمة والأخوة بين البشر، واحترام كرامة الإنسان، لم يمر عليه نصفُ قرنٍ حتى تحوّل إلى نظامٍ امبراطوري تقوده قوى الثورة المضادة التي عادت إلى الإمساك بزمام الأمور، لتخلُفَ سلطة تجار قريش.
كل الجرائم التي ارتكبها «داعش» وشاهدها الملايين على شاشات التلفزيون، سنعثر على بداياتها في تلك الحقبة التي أرسى دعائمها الأمويون، ومازالت متغلغلةً في الفكر والسياسة وتؤثر في الواقع بعمق. ولم يكن صدفةً أن تكون المنطقة التي أعلن فيها «داعش» دولته، هي نفسها التي شهدت أشرس حروب الفتنة الكبرى (صفين)، على الحدود المشتركة السورية العراقية منتصف القرن الهجري الأول. بل لم يكن اختيار التنظيم اسم «العراق والشام» لدولته صدفةً، وإنما كان إعلاناً عن هويةٍ تصطدم بروح الحضارة، بعد أن تجاوزها الزمان.
كل الجرائم والفظاعات التي قام بها «داعش»، ستجد لها أشباهاً ونظائر في كتب التراث والتاريخ، التي يستلهم منها التنظيم مقومات وجوده. فتاريخنا لم يكن ورديّاً، وكثير من صفحاته ملطّخةٌ بدماء الأبرياء. حتى أبناء الرسول لم يسلموا من القتل والسبي وحرق الخيام والتمثيل بالجثث، بما ينمّ عن نزعة محلية أصيلة موغلة في الإجرام.
إنها البئر العميقة التي يستمد منها «داعش» الإلهام.
الكاتب: قاسم حسين
المقال لصالح صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2015/10/28