فهد عامر الأحمدي ..

يمكن القول إن جميع المعارف البشرية كانت مجرد علوم تنظيرية قبل ظهور الثورة الصناعية الحديثة..

فما فائدة العـلوم إن لم يتم تطبيقها؟ وما فائدة المعرفة إن ظلت حبيسة الكتب؟ وما فائدة الاكتشافات إن لم تتحول لخدمات وسلع تنفع الانسان؟

لهذا السبب أرى أن تطورنا (الحالي) مدين لظهور مفهوم الصناعة والإنتاج الموسع الذي ولد في انجلترا في منتصف القرن الثامن عشر..

في الحضارات القديمة كانت المعرفة مجرد حالة نظرية وترف فكري لا يمكن الاستفادة منه بطريقة مادية أو عملية.. لم تكن المعارف حبيسة المخطوطات فقط، بـل وكانت عاجزة عن التحول لشيء تطبيقي ومنتج صناعي يستفيد منهما جميع الناس بطريقة فعـلية ملموسة..

الاختراعات ذاتها لم تكن مجهولة في العالم القديم ولكنها ببساطة لم تكن تصنع بشكل موسع كي يستفيد منها الجميع.. كان معظمها يظل إما حبرا على ورق أو تطبيقا وحيدا خاصا بالمخترع وحده (لهذا السبب كان العرب يطلقون على الاختراعات علم الحيل لقناعتهم بأنها حيل ذكية ولكن ليست عملية)..

غير أن الوضع تغير تماما حين ظهرت الثورة الصناعية وانتشر مفهوم تطبيق المعرفة (بغرض بيعها كسلع)..

ظهور الشركات والمصانع بشكلهما الحديث أتاح لنا امتلاك أجهزة معقدة (مثل التلفزيون والراديو) لا يمكن انجازها بالمجهود الشخصي - وفي نفس الوقت تتميز بسعرها الزهيد بفضل إنتاجها بشكل جماعي وموسع.. تطور الأمر لدرجة امتلكت معظم الشركات علماء ومبدعين (مراكز بحث متخصصة) مكنتها من ابتكار سلع معقدة لا يمكن للانسان انتاجها بنفسه لو عاش مليون عام.. ومع هذا تصنعها بسعر يناسب الجميع!

.. والثورة الصناعية الحديثة يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل بدأت في بريطانيا ثم أوروبا وأميركا قبل أن تعم العالم بأسره في نهاية القرن العشرين..

الثورة الصناعية الأولى بدأت عام 1784 باختراع الآلة البخارية التي ميكـنت الانتاج وخلقت نوعا جديدا من وسائل المواصلات (القاطرة البخارية)..

والثورة الصناعية الثانية بدأت عام 1870 حيث انتقلت المصانع من استعمال طاقة البخار الى طاقة الكهرباء - وظهرت خلال هذه الفترة أجهزة لا حصر لها تعمل بالطاقة الجديدة..

ورغم استمرار منجزات الثورة الصناعية الثانية؛ ظهرت الثورة الصناعية الثالثة بظهور الحواسيب عام 1969 وانتقال الانسان إلى انتاج البرامج والمعارف ونشرها من خلال الشبكات الإلكترونية..

أما الثورة الصناعية الرابعة فمازالت في بداياتها الأولى وتشمل تقنية النانو والروبوتات الذكية واستقلال الذكاء الصناعي الذي سيكون حسب رأيي آخر اختراعات البشر..

كل هذا يجعلني على قناعة بأن اكتشاف الثورة الصناعية ذاتها (وانتشار مفهوم التصنيع والتطبيق) هـو أهـم اكتشافات البشرية وأعظم نقلة نوعية ساهمت في تحويل المعرفة إلى شيء يمكن استعماله والاستفادة منها فعلا..

المؤسف فعلا أن مجتمعاتنا العربية لاتزال غارقة في المعارف التنظيرية والعلوم الوهمية التي لا يمكن تطبيقها (إلا) كـنزاعات فكرية أو صراعات طائفية لا تخدم عامة الناس ولا تقدم للبشرية إضافة حقيقية..

.. أذكر أنني كتبت ذات يوم مقالا تساءلت فيه:

ماذا نفعل لو هاجرت شعوب الأرض المتقدمة (إلى كوكب جديد) وتركتنا نحن العرب وحيدين في هاجرة الصحراء!؟

لصالح صحيفة الرياض