آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الفتاح نعوم
عن الكاتب :
باحث مغربي، حاصل على دبلوم الإجازة في القانون العام من جامعة القاضي عياض بمراكش سنة 2009 وعلى دبلوم الماستر في العلوم السياسية من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 2011. بصدد التحضير لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط. مهتم برصد وتحليل الظواهر السياسية والاجتماعية والشؤون الدولية والاستراتيجية. تلقى عدة تكوينات في الشأن الثقافي، وله عدة مشاركات في أنشطة علمية

صبرا وشاتيلا: عن الذكرى والوعي بحق المقاومة

 

عبد الفتاح نعوم ..

ذكرى أخرى لمجزرة صبرا وشاتيلا مثل خمس سبقوها، كلها أتت في سياق عربي مأزوم، ونظام عربي ماضٍ في اتجاه المزيد من التفكك على إيقاع الأزمات التي طبعت العقد الحالي. المجزرة إياها تستحق وقفة خاصة. صحيح أنها ليست الشاهد الوحيد على جرائم إسرائيل. فهذا الكيان يحمل سجلاً حافلاً بالمجازر منذ ما قبل إعلان تأسيسه العام 1948. لكن صبرا وشاتيلا حملت من الخصائص ما يجعلها تستحق الوقفة تلك. فالمجزرة تزامنت مع الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان، وساهمت فيها أيدٍ لبنانية، وتمّت بطريقة غاية في الوحشية، متأثرة بمناخ الحرب الباردة والحرب الأهلية اللبنانية، وتزامنت مع انطلاق المقاومة ضد الاحتلال. كل ذلك وغيره يجعلها حادثة تستحق وقفة تأمل في بعض خلفياتها وملابساتها، واستعادة بعض من تفاصيلها، واستشكال المآلات الجارية والآتية.

 

لعله من المفيد للمرء مطالعة واحد من أهم الكتب العربية التي توثق لمذبحة صبرا وشاتيلا بكثافة قلّ نظيرها. يتعلق الأمر هنا بكتاب الدكتورة بيان نويهض الحوت، حيث في الكتاب تفاصيل وافية وفّرتها ست وأربعون رواية منقولة عن فلسطينيين ولبنانيين عايشوا تفاصيل المجزرة والأحداث السابقة والمحيطة بها، من اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل في 14 أيلول 1982، مروراً بما تلاه من اجتياح إسرائيلي لبيروت من محاور عدة، وصولاً إلى تطويق منطقة صبرا وشاتيلا، وفسح المجال للميليشيات «الانعزالية» اللبنانية ممثلة في «القوات اللبنانية» و «جيش لبنان الجنوبي» المتعاون مع الاحتلال، لدخول المخيم بذريعة البحث عن 2500 مسلح من «منظمة التحرير»، لينتهي الأمر بواحدة من أبشع المجازر التي عرفها التاريخ البشري الحديث.

 

طبعاً ليس ضرورياً الإغراق في سرد التفاصيل التي تُفرد لها الكاتبة مساحة واسعة، علماً أن الحوت تجري، من خلفية عربية مؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية، محاكمة تاريخية عقلانية للفعل ولمرتكبيه، وتعتمد في سبيل ذلك على قدر عالٍ من التدقيق والفحص والتحقق، متفوقة على معالجات ثانية عاملت المجزرة كتفصيل من تفاصيل الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، مثل معالجة باتريك سيل. لكن من المهم جداً الإشارة إلى أن الجريمة إياها، لم تكن سوى حلقة من سلسلة حلقات تمحورت حول تصفية النضال الوطني الفلسطيني، والمرور إلى الهدف الذي كان ولا يزال في نظر المشروع الصهيوني، كامناً في فك الارتباط بين هذا النضال وبين البيئة الاجتماعية الحاضنة له، ومن هنا أسلوب المجازر العنيفة في حق الفلسطينيين العزل.

 

لقد راهنت إسرائيل في ذلك على الخلفية العقائدية شديدة اليمينية والانعزالية لـ «القوات اللبنانية» ولـ «حزب الكتائب» الذي كان يشكل أهم أعمدة «القوات»، فضلاً عن النزعة الثأرية اتي اتسم بها بعض المشاركين في المجزرة. وكان الرهان ذاك مقروناً بالتأثيرات التي حركت تلك النزعة، متمثلة في ما يُعرَف بـ «مجزرة الدامور» في 20 كانون الثاني 1976، حيث جرى حينئذ اتهام مقاتلين من «منظمة التحرير الفلسطينية» بالضلوع في المجزرة، تاركين وراءهم رسوماً لوجه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على الجدران، مخلفين قتلى في صفوف مقاتلي «الكتائب» وأهالي القرية، ومن ضمنهم خطيبة إيلي حبيقة الذي سيكون قيادياً بارزاً في «القوات» أثناء تنفيذ مجازر صبرا وشاتيلا. وقد اعتُبرت مجزرة الدامور حينها «رداً فلسطينياً» على «مجزرة الكرنتينا» التي وقعت قبلها بيومين، في سياق المتوالية الثأرية لأحداث الحرب الأهلية اللبنانية.

 

بالعودة إلى كتاب الحوت والصورة الدقيقة التي رسمتها لكيفية دخول القوات الإسرائيلية منطقة صبرا وشاتيلا، ومن ثم كيفية إفساحها المجال للمجموعات الانعزالية، بما يبين تخطيطها المسبق الرامي إلى توريطها في المجزرة، فإن ذلك يبيّن أن اغتيال بشير الجميل شكل سبباً مباشراً فقط لوقوع المجزرة، وأن الغاية تمثلت بالقضاء على البيئة الحاضنة للمقاومة، بالصورة نفسها التي ما تزال إسرائيل تعتمدها في حروب غزة، واعتمدتها في عدوان تموز على لبنان. والأكيد أن إسرائيل لم تكن ترى في المجزرة وسواها، سوى فرصة لضرب الجذر الاجتماعي للمقاومة، وذلك التعاطي هو أسلوب يعتمد الهجوم الدموي على المدنيين، وتحريض المقاتلين على القتل بوحشية واغتصاب النساء، وبقر البطون، وحرق الأحياء، والتمثيل بالجثث. وهو أسلوب شبيه بالذي اعتمدته إسرائيل في تهجير القبائل الفلسطينية على يد العصابات التي توحّدت لاحقاً وشكّلت ما أسمته ـ «جيش الدفاع»، وهو نفسه الأسلوب الذي اعتمدته الكثير من الجيوش والعصابات عبر التاريخ العسكري البشري، وهو نفسه الأسلوب الذي تعتمده عصابات «داعش» اليوم. حيث الهدف منه فك الروابط بين المقاومات وبين خلفياتها الاجتماعية، كما سبقت الإشارة، وأيضاً دفع مَن يسمع بالمجزرة إلى الهجرة قبل أن ينال حظه منها.

 

إن محاولة التأمل كل سنة في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، ولو من باب استحضار السياقات المستحدثة، لا يمكن أن يزيدها الاستئناس بكتاب الحوت سوى بالعمق والتجذير. فالكتاب الصادر سنة 2003، يزاوج بين الهم التوثيقي التاريخي، المعزز بالخرائط، وبالصور التي تناقلتها وكالات الأنباء حينئذ، والأرقام والإحصائيات الدقيقة عن مختلف عناصر الحدث، والمعتمد على تجميع كم كبير من الروايات الموزعة على مختلف تفاصيل منطقة صبرا وشاتيلا، وبين الهمّ التحليلي الرامي إلى محاولة الاقتراب من المسؤولين عن تلك المجزرة. فمظاهر التواطؤ والتغاضي والتعويم كانت بادية من جانب القوى الدولية والإقليمية حينئذ، فيما داخل إسرائيل لم تؤدِ نتائج «لجنة كاهان» سنة 1983 ضد شارون وبيغين إلى نتائج غير متوقعة.

 

إن تأمل مجزرة صبرا وشاتيلا في ذكراها السنوية يفضي إلى جملة من الخلاصات، من بينها أن إسرائيل كانت ولا تزال تسعى إلى ضرب سلاح المقاومة، وتجد في تقتيل المدنيين طريقاً إلى ذلك، وكأنها تقول لهم إن «المقاومة سبب تعاستكم، فهلا اصطففتم معي إلى جانبها؟». هكذا ينبري من الأفراد العاديين ومن القوى السياسية من يختزل خطابه كله في ضرورة «نزع سلاح المقاومة»، فتأخذ المجزرة صورة أخرى تقض مضاجع من قضوا في صبرا وشاتيلا وما يماثلها. من المهم جداً تأمل السلوك الإسرائيلي الرامي إلى تشكيل أحزمة أمان بينه وبين جميع أشكال المقاومة التي لا تتوقف عن التناسل ما دام هناك احتلال، وتحفيز تلك الأحزمة كي تستنزف وتشاغل من يضع على أجندته الاستعداد لقتال إسرائيل. لنا أن نتخيّل تزامن ذكرى صبرا وشاتيلا هذه السنة مع ما يحدث على الحدود السورية ـ الإسرائيلية، حيث يجري عمل دؤوب لتكوين «جيش لحد جديد»، شبيه بذاك الذي شارك في المجزرة المذكورة.

 

صحيفة السفير اللبنانية

أضيف بتاريخ :2016/09/17

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد