موت بيريز: الصهيونية ومأزق النظام العربي
شفيق الغبرا ..
مع موت شمعون بيريز المولود في بولندا العام ١٩٢٣ والذي هاجر إلى فلسطين في زمن الانتداب البريطاني العام ١٩٣٣ مع أسرته، برزت أكثر من صورة تناقض كلٌّ منها الأخرى. فمن جهة انبثقت صورة بيريز المحتفى به في الغرب والحائز جائزة نوبل للسلام والذي يتميّز ببعض علاقاته مع بعض العرب الرسميين؛ والصورة الأخرى لبيريز المشارك بفاعلية في النكبة الفلسطينية، كما تطوّرت منذ العام ١٩٤٨.
كان بيريز فاعلاً في مراحل التطهير العرقي ضد الفلسطينيين وفي سلسلة كبيرة من الحروب، فقد انضم مبكراً لميليشيا «الهاغانا»، ثم أرسله بن غوريون العام ١٩٤٧ لجلب الأسلحة من الولايات المتحدة. لهذا ارتبط شمعون بيريز ومنذ البداية، بهزيمة العرب الأولى العام ١٩٤٨، وأصبح المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية في الخمسينات. ووفق المؤرخ الإسرائيلي المعارض للصهيونية الان بابي، كان بيريز وراء خطة تهويد الجليل التي تبناها بن غوريون رئيس الوزراء قبل تركه للحكومة العام ١٩٦٣، والتي نتجت منها مصادرة الكثير من أراضي الفلسطينيين. وبرز بيريز بصفته أول وزير مسئول عن الأراضي المحتلة بعد حرب ١٩٦٧.
ومن لا يذكر في العالم العربي مذبحة قانا العام ١٩٩٦ والتي التصقت ببيريز بصفته رئيس الوزراء المؤقت، والذي سعى قبل الانتخابات إلى إقناع الناخب الإسرائيلي بقدراته العسكرية؟ لقد وقعت تلك المذبحة بعد حصول بيريز على جائزة نوبل للسلام!
بيريز هو الأذكى من قادة إسرائيل، حيث عرف تماماً كيف يطرح أسوأ الأفكار بقفاز من الحرير. لقد طرح حلولاً تبدو إيجابية كالتقاسم الوظيفي مع الأردن لمناطق الضفة الغربية وذلك كمدخل لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني، كما سعى بيريز في السابق وفي المرحلة الأخيرة إلى دولة فلسطينية منقوصة السيادة، تتنازل لإسرائيل عن كل الحقوق وتقبل بالمستوطنات.
بيريز المرن، كما ينظر إليه الغرب، هو الأب الروحي لانطلاقة الاستيطان في الجزء الأول من السبعينات، وهو صاحب الشرق الأوسط الجديد الذي يقوم على العقل اليهودي واليد العاملة العربية. لقد استمر بيريز ليوم مماته صهيونياً مؤمناً بحقوق اليهود الأزلية على حساب سكان البلاد الأصليين في فلسطين. في الجوهر، استمر استعمارياً عنصرياً تجاه العرب وحقوقهم.
لقد ذهب لجنازة بيريز عدد من ممثلي العرب، كما حضرها الرئيس أبو مازن، كل زائر ومشارك لديه أسبابه وظروفه، لكن دبلوماسية الجنازات لن تغيّر الأوضاع ولن تنظّف التاريخ من أوساخه. التطبيع بين العرب وإسرائيل لن يوقف الاستيطان ولن يغيّر السعي الصهيوني إلى جلب مزيد من اليهود إلى الضفة الغربية المحتلة والقدس، كما لن يغيّر من زخم المواجهات حول الحقوق والعدالة. إن النكبة التي وقعت عام ١٩٤٨ لم تتوقف منذ قامت إسرائيل.
اتصلت هاتفياً بصديقي في الأردن أسأله عن إن كان سيشاهد برنامجاً تلفزيونياً على وشك العرض، فأبلغني أنه توقف عن استخدام الكهرباء لمدة ساعة. ثم أردف: «أفعل ذلك أنا وكل سكان العمارة التي أقطنها كتعبيرٍ عن التضامن مع دعوة جمعيات المجتمع المدني لمقاطعة شركة الكهرباء الوطنية الأردنية التي اتفقت مع شركة نوبل إنيرجيا الأميركية، وشركة ديلك كدوحيم الإسرائيلية، المعنيتين بتطوير الحقل الإسرائيلي».
وبالفعل فقد تم الاتفاق في الأسبوع الماضي على صفقة غاز هدفها توليد الكهرباء للأردن بنسبة ستصل لأربعين في المئة من حاجة الأردن من الكهرباء، وهناك خطة لجعل التغطية تصل إلى ستين في المئة. الغاز سيتم استيراده من حقل ليفيتان الإسرائيلي الجديد، وهو الأول لهذه الشركة، وهو الأساس الذي سيمكنها من تطوير الحقل وجلب مستثمرين جدد.
في هذا الاتفاق سابقة أيضاً، لأنه سيجعل إسرائيل لأول مرة دولةً مصدّرةً للغاز، كما أن إسرائيل أعلنت أنها ستستخدم الأرباح التي تجنيها على شكل ضرائب من بيع الغاز لتعزيز الأمن والتعليم في إسرائيل. هذه الصفقة مكسب كبير لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو. لقد وافق الأردن على شراء الغاز الإسرائيلي بسعر أعلى من السعر المتعارف عليه في السوق، وذلك على رغم قرار البرلمان الأردني رفض استيراد غاز من إسرائيل. هدف هذه الصفقة أن تكون مقدمة للمزيد من الاستهلاك المحلي والأردني وفيما بعد العربي.
وعندما يتورط العرب الرسميون في التطبيع وعلى هذا المستوى العميق والمتداخل بالاقتصاد والسياسة والاعتماد المتبادل، فإنه يؤدي إلى تفاعلات أشد خطورة. التطبيع في ظل التفكك والضعف العربيين الراهنين يأكل من الشرعية العربية ويدمّر الأسس التي يقوم عليها كثير من الأنظمة العربية. فإن كانت شرعية جزء كبير من النظام العربي مستمدةً من الإنجاز، فالإنجازات الاقتصادية والتعليمية والصحية في تراجع في معظم الدول العربية؛ وإن كانت الشرعية قادمةً من البعد الديني، فهذا الجانب يمر بمأزق كبير في ظل بروز رؤى دينية نقدية؛ وإن كانت الشرعية مرتبطةً بالاستقلالية والقدرة على التصدّي لإسرائيل ومناصرة الحقوق العربية والفلسطينية، فهذه الشرعية هي الأخرى تنهار. وفي ظل غياب الشرعية الشعبية الديمقراطية الانتخابية والقائمة على مكانة الرأي العام، فالنظام العربي يمر بواحدةٍ من أسوأ أزمات الشرعية في التاريخ الحديث.
مات بيريز، لكن الصراع العربي - الإسرائيلي ما زال حياً، فإدامة وضع يتميّز بانتهاك المنازل والقرى والمدن والحقوق والأراضي غير ممكنة، بلا انتفاضات ومقاومة ومواجهات في الداخل وحول الحدود. السعي لاستعادة الميزان وبناء التوازن وإنهاء السيطرة الإسرائيلية لن يتوقف مهما كان الظلم فجاً وعنيفاً وذكياً ومدعماً ببنى دولية مهيمنة.
في المرحلة القادمة، سيتعزّز النضال الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر. ستؤكد حالة المقاومة، بخاصة بأبعادها المدنية، أن الاعتماد على إسرائيل يرفع من كلفة النظام العربي السياسية ويعمق بطبيعة الحال من أزمة الشرعية.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/10/31