فصل جديد من حكاية أخطر جاسوس إسرائيلي على العرب
رضي السماك ..
إيلي كوهين الذي أعدم شنقاً في ساحة المرجة بدمشق قبل 51 عاماً (1965)... هي ليست فقط مجرد حكاية من أكثر قصص الجاسوسية تشويقاً وإثارةً، في فصولها في تاريخ الصراع العربي- الأسرائيلي، منذ اغتصاب فلسطين العربية وإنشاء الكيان الصهيوني «اسرائيل» عليها، بل هي صفحة من الصفحات النضالية العربية المشرقة في منازلة العدو على ساحة صد اختراقه التجسسي في الدول العربية، وقد لا يعرف أحد من جيل الشباب العربي اليوم قصة هذا الجاسوس، بل ولربما نسيته كثرة من جيل شباب ستينات القرن الماضي.
ولكن لمن لا يعرفه أو نسي قصته، نُذّكر بأنه أخطر جاسوس على العرب، تمكنت إسرائيل من زرعه في مصر ثم سورية، ولعبت معلوماته دوراً مهماً في الانتصار الكاسح الذي حققته على العرب في حرب يونيو/ حزيران 1967. ويعود أول خيط اكتشافه إلى العام 1954 في مصر التي وُلد فيها بالإسكندرية، إثر اكتشاف دوره فيما عُرف حينها بـ «فضيحة لافون»؛ الشبكة الإسرائيلية التي نفذت سلسلة من التفجيرات في المنشآت والمصالح الأميركية في القاهرة؛ بهدف الإضرار بالعلاقات المصرية- الأميركية، لكنه تمكن من الإفلات من السلطات المصرية بعد إقناعها بخبثه ودهائه ببراءته. واُعتقل مرةً ثانية مع بدء العدوان الثلاثي 1956، واُفرج عنه ثانيةً ليهاجر إلى إسرائيل العام 1957، ونظراً لما أظهره من كفاءة وذكاء، فقد قام الموساد بتأهيله كمشروع استخباراتي كبير يُزرع مجدداً في مصر، إلا أنه عدل عن الفكرة، وخوفاً من وقوعه في أيدي المخابرات المصرية مجدداً؛ قرر الموساد زرعه في سورية، وأهلته لانتحال شخصية سوري مسلم اسمه (كامل أمين ثابت) ينحدر من عائلة سورية مهاجرة إلى الأرجنتين. وتم تدريبه قبل سفره إليها على كيفية استخدام أجهزة الإرسال والاستقبال اللاسلكي والكتابة بالحبر السري. ودرس وتثقف بشأن كل ما يتعلق بحاضر سورية من معلومات وأخبار، وتم تلقينه كيفية التحدث بلهجتها حتى أتقنها إتقاناً مُدهشاً، كما تم تعليمه قراءة القرآن، وإعطائه خلفية كافية عن الشريعة الإسلامية، ثم أرسله الموساد للأرجنتين حيث بقي فيها سنة واحدة باعتباره «رجل أعمال»، وخالط الجالية السورية والعربية هناك كمهاجر يحمل اسم «كامل أمين ثابت»، وكسب ثقتهم بما يبديه من حماسة وطنية قومية عربية أمامهم، واستضافته لهم وأعضاء من السلك الدبلوماسي السوري على مآدب عامرة بما لذ وطاب من الطعام، وأبدى لبعض الدبلوماسيين حنينه الشديد إلى وطنه سورية، فسهلوا له العودة إليها العام 1962، وبقي فيها 4 سنوات، دون أن تعرف حقيقته المخابرات السورية، إلا بعد أن أبلغتها المخابرات المصرية بحقيقته، ولكن بعد أن سرّب أخطر الأسرار المتعلقة بالمعلومات العسكرية عن سورية، ومن بينها بعض الخطط العسكرية، وطائرات «ميغ» و»سوخوي» السوفياتية والغواصات التي تمتلكها سورية، وصور بالتحصينات العسكرية، وأسماء من كبار ضباط الجيش السوري، وبرامج تحركاتهم اليومية بين مختلف المواقع والوحدات وأنواع الدبابات «ت 54» و»ت 55»، والخطط السورية لاجتياح الجزء الشمالي من إسرائيل في أي حرب قادمة.
لكن إسرائيل المعروفة بتقديسها المهووس لأي يهودي في العالم سواء من مواطينها أم من غير مواطنيها، وسواء أكان حياً أم ميتاً، ظلت طوال 5 عقود ونيّف من إعدام جاسوسها إيلي كوهين لم يغمض لها جفن، وظلت حكوماتها المتعاقبة طوال كل هذه الفترة الطويلة تبذل أقصى جهودها ومساعيها لتسليمها رفاته، وكان موضوعه ضمن مفاوضات المسار السوري مع إسرائيل في عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد خلال التسعينات.
وفي العام 2007 طلبت إسرائيل من الرئيس التركي رجب أردوغان الذي كان حينها صديقاً للدولتين سورية وإسرائيل، بذل مساعيه لدى بشار الأسد لتسليم رفاته، وسبق لها أن طلبت حينذاك مراراً من الولايات المتحدة في إطار رغبة دمشق تحسين علاقتها مع واشنطن أن يكون موضوع رفات كوهين حاضراً ضمن شروط التحسين، وراهنت أيضاً على الرئيس الروسي بوتين، لما لبلاده من حظوة لدى الرئيس بشار، ولكن كل هذه المساعي باءت بالفشل؛ وذلك ببساطة لأن رفاته وقبره غدا بالفعل مجهولا مندثرا تحت طرق وحي جديد تم بناؤه بالفعل.
وأخيراً، ولعله من مفارقات واحدة من رزايا الدهر العربي المؤلمة، كما تعبر عنه الحرب الكارثية الراهنة الدائرة رحاها في سورية، وحسبما كشفت صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية (عدد 22 سبتمبر/ أيلول الماضي)، تمكنت إسرائيل من الحصول على شريط صوّره التلفزيون السوري لعملية إعدامه أمام الجماهير المحتشدة في ساحة المرجة العام 1965، الشريط سرّبه أحد عملاء إسرائيل العرب في مجدل شمس في الجولان المحتل، واسمه مندي صفدي، حصل عليه من إحدى فصائل المعارضة التي تقاتل النظام السوري، رفض الكشف عنها، ولربما تكون ممن تُوصف بالمعتدلة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع أميركا وإسرائيل، وبقدر ما سببه الشريط المتداول في وسائل التواصل الاجتماعي من صدمة إسرائيلية بسبب قساوة مشهد الشنق، أمام شماتة وفرحة الجماهير السورية المحتشدة، بقدر ما استبشرت به إسرائيل خيراً ككنز ثمين يوثق نهاية بطل من أبطالها، وقد يكون بداية لخيط معرفة مصير رفاته المجهولة. أما كيف جرى اختراق أرشيف التلفزيون السوري أو أرشيف المخابرات العسكرية السورية لسرقة هذا الشريط الوثيقة، فهذه قصة أخرى مجهولة ربما لا يكشف النقاب عنها إلا بعد انتهاء فصول مأساة الحرب الراهنة التي يدفع ثمنها الشعب السوري وحده، ويعود الاستقرار مجدداً لسورية في ظل حكم وطني ديمقراطي جديد يجمع عليه هذا الشعب الذبيح.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/12/06