إدارة «عاجزة»
هاني الفردان ..
ملفُّ «التقاعد» في البحرين حاليّاً، هو شغل الناس الشاغل، وهو الحديث الذي لا يخلو مجلسٌ منه، والمستقبل الذي يتلو سنوات العمل، وتأمين الحياة، وكل تلك الأموال المستقطعة، والتي قد تضيع في وهلة، مع إقرار أي نظام جديد للتقاعد.
المُواطنُ البسيطُ يتلقى بين الحين والآخر طعناتٍ من كل حدَبٍ وصوب، بدءاً باللحوم، ومن ثم البنزين، والكهرباء والماء، ووصولاً إلى ما يُلمح إليه حاليّاً بالتقاعد وبحجج «التدرج».
ملف من أسوأ ملفات الفساد في البحرين، وهو ملف صناديق التقاعد والتأمينات سابقاً وحالياً «التأمين الاجتماعي»، والذي ضجَّت أوراق الصحف بشأنه طوال سنوات طويلة، وشُكلت على إثر ذلك لجان تحقيق برلمانية وغيرها.
اعترفت الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي، في ردّها على استفسارات نيابية، بأنّ «90 في المئة من الأراضي التابعة إلى ملكيتها غير مطوّرة، ولا تدرُّ عليها أيّة إيرادات»، وأن 90 في المئة من إجمالي المحفظة العقارية هي أراضٍ خام غير مطوّرة، فيما تشكل العقارات المطوّرة نسبة 10 في المئة فقط محققةً عائداً ربحيّاً نسبته (13.35 في المئة) من قيمتها الدفترية البالغة 20.8 مليون دينار، أمر يستدعي بحذ ذاته التحقيق؛ كون هناك شركة وذراع استثمارية لعقارات «التأمينات» تتسلم رواتب كبيرة، بلا فاعلية أو إنتاجية.
قبل أقل من عام وبالتحديد في (16 يناير/ كانون الثاني 2016) صرح الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للتأمين الاجتماعي زكريا سلطان بأن 95 في المئة من المحفظة العقارية الإجمالية هي أراضٍ خام غير مطوَّرة حاليّاً، قامت الهيئة بشرائها في فترات سابقة، لرؤيتها آنذاك بأن القيمة السوقية لهذه الأراضي سترتفع مستقبلاً، فيما تشكِّل العقارات المطورة 5 في المئة فقط، محققة عائداً ربحيّاً يتعدى 6 في المئة، وذلك بحسب البيانات المدققة بنهاية العام 2014!
ثم خرجت علينا الهيئة بعد ما أحدثته أرقامها من «ضجة» لتحاول «ترقيع ما لا يترقع» وتصدر بياناً توضيحيّاً الإثنين (26 ديسمبر 2016) لتقول إن «ما نسبته 91 في المئة من تلك الأراضي الخام هي أرض موهوبة من جلالة الملك دعماً للصناديق التقاعدية بمنطقة قلالي، وهي تمثل الجزء الأكبر من تلك الأراضي؛ نظراً إلى كبر المساحة»، وهو ما يتناقض مع تصريح (يناير 2016) من أن الهيئة قامت «بشرائها في فترات سابقة، لرؤيتها آنذاك أن القيمة السوقية لهذه الأراضي سترتفع مستقبلاً»!
الحديث الذي لا يتوقف عن «إفلاس اكتواري» لصناديق التقاعد أمر ليس بجديد، وامتد لسنوات طويلة من قبل المسئولين المتعاقبين على تلك الصناديق، ولكن كل ذلك كان مربوطاً أيضاً بحجم ملفات الفساد في تلك الصناديق، فهل يعقل أن إدارة وصندوق بحجم «التأمين الاجتماعي» عاجز عن استثمار 95 - 90 في المئة من محفظته العقارية!
ذلك العجز يقابله، فساد من نوع آخر في حجم المكافآت التي يتقاضاها المسئولون في تلك المؤسسة الرسمية، فشخصيّاً، كنت أحد المتابعين، وبشكل كبير، لملفات صندوقي التقاعد والتأمينات، وكنت على اطلاع وعن قرب عن حال الصندوقين قبل الدمج وبعده، ونشرت الكثير مما يمكن أن يسمى بـ «ملفات فساد»، كان أبرزها في العام 2009 عندما كشف النقاب عن مكافآت المسئولين عن الصندوقين، نظير تمثيلهم الهيئة في مجالس إدارة الشركات التي يساهم في رأس مالها الصندوقان.
وخلال خمس سنوات بلغ إجمالي المكافآت التي صرفت لـ 22 مسئولاً في الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي مليوناً و435 ألفاً و889 ديناراً، وذلك نظير تمثيلهم الهيئة في مجالس إدارة الشركات التي تساهم في رأس مالها.
رئيس تنفيذي سابق للهيئة حصل لوحده على ما يقارب 500 ألف دينار عن تمثيله في مجالس إدارة أربع شركات، فيما حصل مدير صندوق التقاعد السابق على 305 آلاف و385 ديناراً؛ نظير تمثيله في مجلسي إدارة شركتين. وحصل كلا المسئولين السابقين على 801 ألف و808 دنانير من المجموع الكلي للمكافآت خلال السنوات الخمس الماضية، وهو ما يعادل 56 في المئة، فيما وزع المتبقي والبالغ 634 ألفاً و81 ديناراً على 20 مسئولاً بين مدير ومسئول في تلك الصناديق.
تخيل عزيزي القارئ أنه قبل سنوات، كان هناك مسئول متقاعد بالهيئة العامة للتأمين الاجتماعي يتقاضى عن كل ساعة اجتماع له نظير تمثيله الهيئة في مجالس إدارة الشركات التي تساهم في رأس مالها 1668 ديناراً.
ومع كل تلك المكافآت الكبيرة، فإن 90 في المئة من المحفظة العقارية لا يتم استثمارها، بل هي أرض «خام» لا قيمة فعلية لها، بل قيمتها «دفترية» تزين سجلات وأرقام الهيئة خلال استعراضها موازناتها!
الوصف الأكثر دقة لما شهده صندوقا التقاعد والتأمينات طوال سنوات مضت أنهما تحولا إلى «تركة» تقاسمها المسئولون فيهما وغيرهم، ولم يوقف ذلك النزيف في أموال العمال والمتقاعدين إلا بعد أن نفدت تلك الخزينة، وأصبح الحديث عن «إفلاس اكتواري» وقرب نفاد أموال الصندوقين والحاجة إلى حلول جذرية سيتحملها المواطن والعامل الكادح.
سبب «الإفلاس الاكتواري» للصناديق التقاعدية في البحرين ليس المواطن الفقير ولا العامل الكادح الذي يستقطع من أجره لتأمين حياته بعد عجزه وكبر سنه، بل هو السياسات والإدارات التي تعاقبت على تلك المؤسسات.
نحتاج إلى إدارات كفؤة قادرة على استثمار أموال المتقاعدين، واستغلال تلك العقارات وتنمية تلك الصناديق، بدل الركض وراء المكافآت.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/12/28