التنكيل والإعدام يكرس الأزمات ولا يحمي الأنظمة
د. سعيد الشهابي ..
بعيدا عن السجال حول عقوبة الإعدام وما إذا كانت ناجعة لتقليص معدل الجريمة، فأن تنفيذها يبعث في النفس قشعريرة وشعورا بالألم. ومع أن الوفاة ظاهرة لا تتوقف لحظة، إلا أن الشعور بأن حياة إنسان قد ألغيت من الوجود أمر لا يستسيغه الكثيرون. ومن المؤكد أن خبر سقوط متظاهر أو محتج مضرجا بدمائه في الميدان يثير الغضب وقد يدفع أقرانه لتصعيد احتجاجهم، ولكن وقعه أخف من خبر الإعدام.
الفرق أن القتل الأول أصبح جانبا من حياة البشر خصوصا في المجتمعات التي تعاني من استبداد الأنظمة الشمولية، وقد يقال إنه «ضرورة للحفاظ على الأمن» مثلا. وحين يطلب من الجيش أو قوات الأمن المدججة بالسلاح النزول إلى الشوارع، فمن الأرجح أن تضغط أصابع بعض هؤلاء على الزناد ليردي واحدا أو أكثر من المتظاهرين صرعى. ولكن للإعدام وقعا آخر على النفوس. فهو تعبير عن «قتل عمد» اتخذ قرار تنفيذه من أعلى هيئات القضاء وتمت المصادقة عليه من أكبر سلطة في الدولة. هنا يكون الموت قرارا رسميا، صدر بوعي لأسباب مختلفة. فهي تارة تعبير عن «تطبيق القانون» وأخرى تعبير عن انتقام وثالثة من أجل تصفية حسابات سياسية. ولذلك اعتبر أي قتل غير مبرر «خارج القانون». فما تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلية منذ شهور يعتبر في أغلبه «قتلا خارج القانون».
وكثيرا ما أطلق عليه الحقوقيون مصطلح «الإعدام» الميداني، الذي يعبر عن استغلال سلطة الدولة بشكل قبيح ضد الأفراد الذين لا يملكون سوى احتجاجهم وقبضات أيديهم التي تهتز في الهواء تعبيرا عن التحدي ورفض سياسات الاحتلال في الحالة الفلسطينية أو ممارسة الاستبداد في البلدان المحكومة بأنظمة شمولية. ونادرا ما تعترف الحكومات بأنها تمارس القتل خارج القانون، الذي يعتبر أحدى الجرائم ضد الإنسانية. بل أن أشد الأنظمة استبدادا يصر في إعلامه وتصريحات مسؤولية أن إعدام المناوئين تم «ضمن القانون». وهنا يتوسع السجال كذلك حول مفهوم «القانون» لأن أنظمة الاستبداد لديها هي الأخرى قوانينها التي وضعها الحاكم أو موظفوه. فالقانون ليس مقدسا بذاته بل أن صواب أي قانون لا يتحقق إلا إذا كان مرتبطا بـ «الحق» و»العدل» و»القبول» من قبل المواطنين أو من يمثلهم. ولذلك تعتبر البرلمانات المنتخبة بإرادة شعبية حرة مصدرا مقبولا لإصدار القوانين المدنية. وفي الحالة الإسلامية لا يكون القانون مشروعا إلا إذا كان منسجما مع الشرع الإسلامي، أو غير متعارض معه على الأقل. ويمكن القول إن أغلب القوانين التي يستند إليها الحكم الديكتاتوري لا تتوفر لها هذه الشروط، بل أنها تفرض على الشعب من قبل الحاكم الذي يمارس سلطات التشريع بالإضافة لسلطاته التنفيذية. وحين تغيب الممارسة الديمقراطية، لا يتاح للمواطنين المشاركة في وضع التشريعات، بل يصبحون مستهدفين بها خصوصا إذا أصروا على نيل حقوقهم المشروعة ومنها حق الشراكة السياسية والرقابية.
في منتصف هذا الشهر استيقظ المواطنون في البحرين على نبأ حزين بأن ثلاثة من المواطنين قد تم إعدامهم «وفقا للقانون» حسب الرواية الرسمية. جاء الإعدام بعد أن أصدرت المحاكم التابعة للنظام قرارها بإعدامهم بزعم مسؤوليتهم عن قتل شرطي إماراتي في العام 2014. هذا الشرطي كان متواجدا بمنطقة الديه للمشاركة مع آخرين في قمع مسيرة خرجت لتأبين ضحية أخرى (هو جعفر الدرازي) الذي قتل في تلك الأيام تحت التعذيب في السجن. المتهمون الثلاثة (سامي مشيمع وعباس السميع وعلي السنكيس) أصروا على براءتهم من تلك التهمة، واثبتوا للمحكمة أنهم لم يكونوا متواجدين في ساحة الحدث آنذاك. بل أن اثنين منهم كانا يمارسان مهنتهما بشهادة مسؤوليهم. وتقدمت منظمات دولية عديدة من بينها منظمة «ريبريف» المعنية بالدفاع عن المحكومين بالإعدام، بالتماسات عديدة لعدم تنفيذ عملية الإعدام، لأنها ستزيد الوضع تأججا وأنها غير مؤسسة على حقائق مبرمة. ووفقا للقوانين الجنائية الحديثة فأن إثبات ضلوع إنسان في جريمة ما يجب أن يكون «ثابتا بمستوى لا يرقى إليه الشك». ووجهت المنظمات الحقوقية الدولية انتقادات عديدة لقرار إعدام الشبان البحرانيين الثلاثة، مؤكدة أن هناك شكوكا كثيرة حول حصولهم على محاكمة عادلة. برغم ذلك أقرت محكمة التمييز قبل أسبوعين حكم الإعدام. وفي غضون فترة قصيرة وقع الملك ذلك القرار، فنفذ صباح الأحد 15 يناير/كانون الثاني وسط لغط وتوتر كبيرين دفعا الحراك الشعبي المتواصل منذ ستة أعوام للتصاعد. أدى ذلك لمزيد من الاعتقالات واستخدام وسائل القمع لتتعمق حالة الاستقطاب في المنطقة.
ردود الفعل كانت بشكل عام ضد الإعدام. فقد انتقدت الولايات المتحدة الثلاثاء ذلك الإجراء. وأعرب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية جون كيربي عن «القلق لحصول هذه الإعدامات في وقت كانت فيه التوترات قد هدأت في البحرين».
إن استقرار أوضاع الأمم مرتبط بمتانة العلاقة بين الحكام والمحكومين، وهذه المتانة لا تتحقق إلا في أجواء الحرية والعدالة. وحين انطلقت ثورات الربيع العربي في مثل هذه الأيام قبل ستة أعوام كانت الشعوب العربية تتطلع لمستقبل مختلف يتأسس على هاتين الدعامتين. ولكن تلك الثورات قمعت بأساليب شتى، وعاد الوضع كأن شيئا لم يكن. هذا يعني أن أسباب التوتر التي دفعت بالجماهير للنزول إلى الشوارع ما تزال قائمة. فلا الحرية المنشودة تحققت، ولا الشراكة السياسية تبلورت ولم تقم العدالة في توزيع الثروة. وبدلا من ذلك تم إشغال هذه الشعوب بهموم مختلقة وتوجهات متطرفة وظواهر هدامة كالتطرف والعنف والإرهاب. ومن سعى للتمرد على هذه الظواهر تعرض للقمع والتنكيل. وفي هذه الأجواء تراجعت حالة الوعي لدى قطاعات الأمة إزاء القضايا الأساس للأمة. ويمكن القول إن الكيان الإسرائيلي شعر للمرة الأولى بالأمن والاستقرار، برغم تطرف حكومته التي يرأسها بنيامين نتنياهو. فتوسع في بناء المستوطنات، ومارس أبشع أساليب القمع مع الفلسطينيين، وانتهج سياسة الإعدام الفوري لعشرات الفلسطينيين بدم بارد. كما استمر في تهويد مدينة القدس في غياب الاهتمام العربي والإسلامي بالقضية كلها. والآن بعد أن تم تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، حقق الإسرائيليون اختراقا دبلوماسيا كبيرا، لأن الرئيس الأمريكي الجديد تعهد بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس. وكأنه أراد أن يضع خطا تحت الحلم الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة تمثل القدس عاصمتها. الشعوب غائبة تماما عن القضية المحورية فيما تعيش أوضاعا أمنية استثنائية، تتميز بغياب الأمن والأمل والعجز عن تحقيق مكاسب سياسية بعد المخاضات العسيرة لثورات الربيع العربي، وحالة الإجهاض التي منيت بها تلك الثورات. وإعدامات البحرين لا تنفك عما يحدث في الدول العربية الأخرى التي استعادت قوى الثورة المضادة نفوذها فيها ومنعت بالقوة حدوث أي تغيير سياسي ملموس.
هل العودة إلى المربع الأول خيار عملي؟ هذا ما يراهن عليه أعداء الثورات والتغيير، وهذا ما ترفضه القوى الشعبية المتطلعة للحرية والعدالة.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/01/23