عن مطاردة «الميادين» و«المنار» «عربسات» وشجرة الجنّة
علي الديري
الدول العربية اليوم بمثابة القبائل العربية التي أخضعها المؤسسون من آل سعود تحت راية التوحيد الوهابي. والتوحيد الوهابي ليس سبة هنا، بل هو تمييز للطبيعة السياسية والعقائدية المؤسس عليها نظام الحكم السياسي للمملكة العربية السعودية، فهذا التوحيد في مفهومه مخالف لمفهوم التوحيد الأشعري الذي يتبناه عموم أهل السنة والجماعة. وهو توحيد يقوم من الناحية السياسية والتاريخية على الإخضاع والإكراه والإتباع، فالغالبية العظمى من القبائل في الجزيرة العربية صارت سعودية بقوة الغزو الذي شرّع له هذا التوحيد.
نكتفي في التدليل على هذا الشبه بين وضعية الدولة العربية والقبائل العربية بحادثة «عربسات»، والاسم الرسمي لها «منظمة الاتصالات الفضائية العربية» (Arab Satellite Communications Organization)، وهي سلسلة من الأقمار الصناعية للاتصالات والبث التي تمتلكها «جامعة الدول العربية»، وتأسست في عام 1976.
بعد قناة «الميادين»، أجبرت السعودية شركة «عربسات» على إنزال قناة «المنار» عن قمرها الصناعي من دون سابق إنذار، تماماً كما كانت تسقط القبائل بالقهر. فهي تُعد من طرفها لائحة الاتهام الموحدة (الكفر والشرك) وتطبق العقوبة (الغزو). هو ذاته المنطق تطبقه اليوم تجاه القنوات الإعلامية التي لا تقر بالشهادتين؛ شهادة أنّ المملكة العربية السعودية زعيمة أو خليفة المسلمين، وشهادة أنّ العقيدة الوهابية هي عقيدة السلف الصالح وما عداها ضلال وبدع وكفر.
في تواريخ التأسيس، يورد لنا «ابن بشر» أحد المؤرخين الرسميين المعتمدين من قبل السعودية، في كتابه «المجد في تاريخ نجد» الجملة المقتضبة التالية عن محمد بن عبدالوهاب: «حتى وقع بينه وبين أبيه كلام» (1)، ماذا وقع بينه وبين أبيه القاضي الفقيه الحنبلي؟ لقد أنكر عليه أبوه تشدّده وتكفيره ومفهومه الحاد الرفضي للتوحيد، وكذلك فعل أخوه.
ويروي لنا أحمد بن زيني دحلان الحسني (1816 ــ 1886)، إمام الحرمين، ومفتي وفقيه الشافعية في عصره، في كتابه «الدرر السنية في الرد على الوهابية»: «وكان أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب من أهل العلم، فكان ينكر عليه إنكاراً شديداً في كل ما يفعله أو يأمر به ولم يتبعه في شيء مما ابتدعه، وقال له أخوه سليمان يوماً: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب؟ فقال خمسة، فقال: أنت جعلتها ستة، السادس: من لم يتبعك فليس بمسلم هذا عندك ركن سادس للإسلام» (2).
«من لم يتبعك فليس بمسلم»، هذا هو الركن الذي يلخص معنى «الرفض» في العقيدة الوهابية والسياسة السعودية، وقد ارتبط مسمى «الرفضيون» بجماعات الوهابية التي ظلت وفية لصيغة الوهابية الأصلية، كما هو الأمر مع جماعة «إخوان بريدة» و«السلفية المحتسبة» و«جماعة جهيمان». إنّهم يرفضون كل من لا يتطابق مع الوهابية، ويرفضون أشكال الحياة العصرية، ويرفضون التأقلم مع أي متغير.
«الرفضيون المؤسسون» رفضوا التأقلم مع الواقع الذي أرساه إبراهيم باشا بعد تدميره الدرعية (1718)، واعتبروا العثمانيين والمصريين كفرة لا يجوز التعامل معهم، وظلوا بهذا المبدأ يمثلون الوهابية الخالصة النقية.
انتقل مبدأ «الرفض» العقائدي الصلب إلى السياسة، فصارت سياسة متصلبة، لا تقبل بالتفاوض ولا أنصاف الحلول ولا بمعادلة اكسبْ ــ اكسبْ. تمسكت بالمعادلة الصفرية، الربح الكامل، أي فرض إرادتها الكاملة المطلقة على الجميع، وهذا ما فعلته مع جميع القبائل.
لقد رفض محمد عبدالوهاب أخاه ورفض أباه ورفض أشكال التديّن كلها في الجزيرة واعتبرها كفراً وشركاً يجب التبرؤ منه بالقلب واللسان واليد، وهو بهذه الممارسة أعطى لمبدأ «الولاء والبراء» سيرة عملية حية، لأغلب التنظيمات الجهادية المعاصرة المؤسسة عليه.
تسقط «المنار» و«الميادين» من قمر السعودية (عربسات) كما تسقط جميع الفرق والمذاهب والطوائف من الإيمان (لا إله إلا الله) لأنّها لم تخضع لمفهوم التوحيد الوهابي في الأفعال والعبادات والأسماء والصفات.
لا يمكن الآن لأي قناة أن تدور في فلك قمرها إذا لم تخضع لفلكها السياسي والعقائدي. هي تملك السماء وأبوابها وأقمارها وجنّتها، ولا يتسع كل ذلك لأحد معها. بعدما دمّر إبراهيم باشا الدرعية، أحضر خمسمئة من علماء الوهابية للمناظرة مع علماء مصر، وفي اليوم الرابع أقفل باب الجدل، وسأل كبير علماء الوهابيين: «ما رأيك في الجنة... وما عرضها؟… إذا كان عرضها السموات والأرض كما تقول وإذا وسعتك أنت وأمثالك رحمة الله فدخلتم الجنة ألا تكفي شجرة واحدة من أشجارها لأن تظللكم جميعاً؟ فلمن إذن بقية الدار؟ أسألك الجواب» (3).
لا تتسع الجنة ولا شجرة في الجنة لأحد يخالفها، ولا يتسع فضاؤها السياسي ولا الافتراضي ولا قمرها. إنّها مملكة حصرية على صيغة توحيد حرفية، سياستها مؤسسة على الرفض والفرض. وكما فرضت صيغة الإيمان واعتبرت من لا يؤمن بها كافر يجوز قتله وسبيه، كذلك تحاول فرض معاني التلفيق والتضليل ضد المختلفين معها، ومن لا يسير وفق أجندتها السياسية في اليمن ولبنان والبحرين وفلسطين وسوريا فلا تتسع له ظلال شجرة جنتها.
إنّها مملكة التوحيد المتوحّش، تفرض مفهوم الإعلام الواحد الموحّد كما تفرض مفهوم الإيمان الواحد الموحد.
* كاتب بحريني
(1) ابن بشر، المجد في تاريخ نجد، ص37.
(2) أحمد بن دحلان، الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص104
(3) الوهابية بتقارير القنصلية الفرنسية في بغداد، ص 47
صحيفة الأخبار
أضيف بتاريخ :2015/12/08