الأزمة العربية وهشاشة الهياكل الاجتماعية
يوسف مكي
لم يكن للإرهاب أن يتمكن من تدمير أوطان ومصادرة هويات لو كانت أسس الدولة الوطنية راسخة وقوية، ولو كان بنيانها التنموي قادرا على الصمود
لم يعد ممكنا دس الرؤوس في الرمال، بعد ما جرى من تهديد حقيقي للأمن القومي والوطني، بالبلدان العربية، في السنوات الست المنصرمة. لقد أخرجت بلدان عربية من خريطة العمل العربي المشترك، بل إن بعض هذه البلدان صورت كيانات وهوية، ولم يعد لها وجود حقيقي على الخارطة السياسية، بعد أن جرى تفكيك أوصالها، وباتت محكومة بميليشيات الطوائف والقبائل. لم تجر للأسف قراءة دقيقة لأسباب الأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية، بل إن الكثير من الناس اعتبر مقدماتها كرنفالات فرح، باعتبارها ثورات للحرية والكرامة. ولعب الهوى والأيديولوجيات دوره في تقديم أجوبة مبتسرة ومنحازة، وغير قادرة على النفاذ إلى عمق الأزمة.
كانت معظم الأجوبة المقدمة عن أسباب الانهيارات السياسية والاجتماعية التي مرت بها الأمة، هي في الغالب جزء من تجلياتها. ونقطة الضعف فيها أنها تغيب التاريخ، ولا تنطلق من قوانينه، رغم أن هذا الجزء من العالم هو الأكثر تأثرا بالتحولات الكونية وبنتائجها، الواضحة والمضمرة.
وأولى قوانين التاريخ أنه يقوم على الصراع، وأن التسويات التاريخية هي حاصل عجز المتصارعين عن كسب الصراع لصالحهم. وأي تصور خلاف ذلك من شأنه أن يجر إلى استسلام وعجز، وغياب للإبداع والمبادرة، وتغييب للوعي والإرادة والقدرة على الفعل. ومن هذا القانون تكتسب مقالة ونستون تشرشل الشهيرة، موقعها بأن العلاقات بين الدول ليس فيها صداقات دائمة، لأنها تقوم على المصالح.
القانون الآخر، هو أن الأفكار كما النباتات لها بيئتها الخاصة، ومناخها الخاص. إن ذلك لا يعني أبدا، التسليم بما هو كائن، وتكريس حالة الجمود والسكون، وأنه يعني أيضا أن التوطين لما هو جديد ينبغي أن يكون في سلم الأولويات، وإلا فإن النقل سيكون ميكانيكيا، بمعنى أنه غير جدلي.
كان والت روستو في بداية الخمسينيات من القرن المنصرم، قد أطلق نظريته في كتابه الموسوم بمراحل النمو الاقتصادي، عرض فيه فلسفته، بأن الدول المتخلفة ستتغلب عن طريق التكامل مع الأنظمة الرأسمالية المتقدمة، والمساعدات والقروض، ونقل التكنولوجيا الغربية، وتبني النموذج الرأسمالي، على حالة التخلف. وسوف تصل إلى مرحلة الانطلاق. بمعنى أن تقدم هذه الشعوب يمكن في اندماجها التام بالأسواق الرأسمالية.
كان هذا التنظير جزءا من محاولة الاستقطاب العقائدي والسياسي، أثناء اندلاع الحرب الباردة بين القطبين العظيمين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. والذي قسم العالم بين معسكرين، على أسس الولاء لأي من القطبين. ولم يكن له علاقة بالواقع.
أنجزت معظم البلدان العربية استقلالها السياسي منذ أكثر من نصف قرن. وكانت المهمة الأساسية لهذه البلدان بعد الاستقلال هو تكنيس مخلفات عهود الاحتلال، وتحقيق التنمية بكل آفاقها وتشعباتها، وفي المقدمة من ذلك بناء دولة عصرية، وتجاوز الهياكل الاجتماعية القديمة، والتماهي مع تحولات العصر العلمية الكبرى، التي مر بها القرن العشرون، وهذا القرن. لكن نتائج لتلك المحاولات البائسة كانت كارثية بكل المقاييس.
تحولت المدن العربية الرئيسية إلى مراكز تجارية تلبي حاجة المستهلكين، وعجز الإنتاج البدائي عن التنافس
مع منتجات الصناعات في الدول المتقدمة، وانتهى وضعه إلى التدمير الكامل. كما أن الإنتاج الزراعي أمام حالة التضخم الاقتصادي التي شهدتها البلدان العربية الزراعية لم تعد كافية لمقابلة الاستحقاقات الأساسية للناس. فقد شهدت معظم المدن العربية، وعلى رأسها العواصم التي كان لها دور كبير في عصر اليقظة، هجرات واسعة من الأرياف للمدن، بسبب جاذبية العيش فيها، بالمقاربة مع واقع الأرياف.
كان من النتائج المريرة، لتلك الهجرات ترييف المدن الكبرى العربية، ونقل العلاقات القديمة السائدة بالأرياف إلى المدن التي اكتسبت طابعا حضريا، وحضاريا من قبل. أما الأرياف فإنها تدهورت اقتصاديا، مع تدهور الإنتاج الزراعي، وتراجع قدرته التنافسية، وعجزه عن تلبية حاجات الناس في المسكن والملبس والمأكل.
وبقدر عجز الدول العربية عن تنفيذ خطط تنموية طموحة في كافة المجالات، بما في ذلك عجزها عن مقابلة استحقاقات الناس في الصحة والتعليم والعيش الكريم، بالقدر الذي تنهار فيه الهياكل الاقتصادية القائمة، ويتراجع دور الطبقة المتوسطة، الملهمة للفنون والفكر والإبداع، وتنتشر الأفكار القدرية التي تبرر عجز الإنسان، وتعزز غربته التاريخية والكونية.
وفي هذا السياق، لا نتغاضى عن وجود مشاريع دولية وإقليمية تستهدف الأمن القومي العربي، فذلك أمر بديهي، في منطقة هي في قلب العالم، وهو نقطة الوصل بين القارات القديمة، آسيا وإفريقيا وأوروبا، وقد شاءت المقادير أن تحوي أكبر خزان في العالم لتسيير ماكينة الصناعة في العالم بأسره. لكن ذلك وحده ليس كافيا لتبرير ما حدث. فالغازي يبحث عن أماكن الاختراقات ويستثمرها لصالح مشاريعه. وحين تكون جل العناصر المتوافرة هي بالضد من قدرتنا على التصدي لمشاريع التفتيت، فإن النتائج ستكون خطيرة ومدمرة. وبالمثل، لم يكن للإرهاب أن يتمكن من تدمير أوطان ومصادرة هويات لو كانت أسس الدولة الوطنية راسخة وقوية، ولو كان بنيانها التنموي قادرا على الصمود. ولو أتيح للطبقة المتوسطة أن تلعب الدور التاريخي المنوط بها، في التنمية والتمدين.
ينتشر الإرهاب الآن في خط أفقي على مستوى العالم بأسره، ولكن تأثيراته التخريبية على شعوب العالم ليست بالقدر نفسه. والقانون التاريخي يؤكد أن الدول الأصلب تكوينا، والأكثر مراسا هي وحدها القادرة على إلحاق الهزيمة بالإرهاب، وقبره للأبد.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2017/04/26