مدافن التاريخ
مرزوق بن تنباك
للتاريخ سطوة على الذاكرة الشعبية في العالم، ولكل أمة تاريخ تعشقه وتحترمه وتحافظ على الجميل منه وتدافع عنه وتجعله جزءا من برامجها التعليمية، وإذا كان التاريخ هو الماضي بكل ما فيه من طيب يذكر وسيئ يهمل ويقبر، فإن مهمة الأمة التي تعتز بتاريخها أن تعرف وجه الاستفادة من مواعظ التاريخ ووجه التجاوز لما يعتري مراحله من القصور، وأن تفرز فرزا صحيحا بين ما تبرزه للأجيال وما تخفيه عنهم، ولا يوجد تاريخ لا يكون فيه من القصور ما فيه ومن المآسي ما لا يصلح للذكر ولا يصلح للفخر.
وتاريخنا الإسلامي تاريخ طويل عريض نعرفه جيدا ونعرف ما فيه من حقب القوة وما حملت بعض مراحله من السمو والإشراق الذي لا ينكره منصف ولا قارئ محايد، ونعرف أيضا أن هناك هفوات كثيرة اعترت هذا التاريخ، وليست المشكلة في ذلك، المشكلة هي نظرة بعض قراء التاريخ المعاصرين وتفسير أحداثه كما يريدون، والنبش في طوايا التاريخ لكي يجدوا حجة ودليلا لما يواجهون من مشكلات معاصرة، ومحاولة إعادة أحداث التاريخ والعمل بها رغم أن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن قالوا ذلك. التاريخ ماض ولا يمكن للماضي أن يصير إلى حاضر، والأخطر من محاولة إعادة التاريخ الغوص في مدافنه والنبش فيها عن شيء يظنون أنه يصلح للحاضر فيحاولون العمل به.
للتاريخ مدافن، مثل مدافن النفايات في المدن المعاصرة، تركها مكشوفة يسبب أمراض الإعاقة وتدهور الصحة، أما النبش فيها ومحاولة استدعائها دون تمحيص فهو كارثة ماحقة، والحاصل مع الأسف الشديد أننا اليوم ننبش في مدافن تاريخنا القاتلة ومنها:
مدفن الطائفية.. فالطائفية مدفن من مدافن التاريخ العميقة، بدأت فيه مبكرة منذ أيامه الأولى، حين اختلف فريق من المسلمين مع فريق آخر، فحشد كل فريق رأيه ليعزز حجته وينصرها؛ ليكون له الغلبة والقبول لدى الناس، واستدعى النصوص والثقافة العامة وعززها بغطاء ديني مناسب، وجاء الفريق الآخر بما لديه للدفاع عن رأيه وموقفه الذي يعارض الرأي الأول، وكل منهما متح من مشرعة التاريخ ووشحها بنصوص من اجتهاد الفقهاء وأقوال الوعاظ وآراء السياسيين، حتى صار كل فريق يرى ما هو عليه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وما سواه باطل يجب قتال من يعتقد العمل به، وأصبحت الطائفية مدفنا واسعا استمرت آثاره وأخطاره على الأمة، وما حدثت حرب ولا قامت فتنة إلا كانت الطائفية وقودها الجزل، ونارها التي تشتعل، ذهبت بها الأنفس والأموال وانتهكت الحرمات باسم الطائفة والمذهب. ولعل ما يحدث في العالم العربي والإسلامي من حروب وقتال وتفرق في الكلمة وفتنة تحرق الأخضر واليابس هو عمل الطائفية البغيضة، والحاضر شاهد للعيان، فمتى نهتدي إلى طريق سلكه العالم وأضاءه بنور المواطنة والعدالة الاجتماعية بين المواطنين، واحترام الشعائر لكل أبناء الوطن، ونبذ كل صور التمييز بين الناس على أي صفة كانت. وليست الطائفية هي المرض الوحيد الذي تعاني منه الأمة العربية، ولكن هناك أمراض كثيرة كالعنصرية في أي مهما كانت في اللون والجنس واللغة والإقليم والقبيلة وغيرها كتسويغ التسلط المطلق على الناس، والبعد عن العدل والقسط بينهم والظلم الاجتماعي الذي ساد حقبة طويلة من التاريخ، وفقدان المعاملة بالحسنى والكسب الحرام وضياع الأمانة، وسوء الظن الغالب والحمية الجاهلية، كل هذه المدافن يعاد نبشها وتجد من المعاصرين من يتبناها ويحاول تجميلها وإحياءها وليس فيها جميل إلا ذهابها في عمق التاريخ.
صحيفة مكة
أضيف بتاريخ :2017/05/10