من ذاكرة البوسنة.. حين حاول المجاهدون العرب الانقلاب على بيغوفيتش
عبدالله الرشيد
لم تكن الحرب البوسنية (1992 – 1995) مجرد محطة عابرة في تاريخ الحركة الجهادية العالمية، بل كانت فترة أساسية مهمة في تكوين الجيل الثاني من قيادات تنظيم القاعدة، ومركزا لاحتواء المقاتلين العرب الذين فضلوا الخروج من أفغانستان حين انتهت الحرب الأفغانية مع السوفييت. لذلك كانت البوسنة محطة مهمة بالنسبة للعرب الأفغان، الذين بدأوا يستجمعون قواهم من جديد، ويشحذون عقيدهم القتالية بالحديد والسلاح، مع عدو جديد، لكن هذه المرة في إقليم يوغسلافيا.
حين نطالع السير الذاتية لأهم قيادات تنظيم القاعدة في السعودية الذين قاموا بشن هجمات دامية منذ 2003، نجد أن حضورهم البارز قد بدأ يتشكل وينمو من خلال حرب البوسنة وما بعدها، وعلى رأس تلك القيادات يوسف العييري، وخالد بن مسلم الجهني، وخالد الحاج، وعبدالعزيز المقرن، وصالح العوفي، إضافة إلى أن أهم عناصر القاعدة الذين هندسوا فيما بعد عملية 11 سبتمبر، وهم خالد شيخ محمد، ورمزي بن الشيبة قد شاركوا في حرب البوسنة أيضا.
يشير مقاتل سابق في البوسنة -أصبح عميلا مزدوجاً لمصلحة جهاز استخبارات غربي، اسمه (العميل رمزي)- في مذكرات نشرتها صحيفة الحياة في مارس 2014، أن فكرة الانتقام من أمريكا بضربة قوية كبيرة تكونت أثناء الحرب البوسنية، بعد أن أدى اتفاق دايتون برعاية أمريكية إلى إنهاء الحرب. نزل خبر الاتفاق كالصاعقة على المقاتلين العرب، يروي العميل رمزي جانبا من ذلك، فيقول: «ما زلت أتذكر تلك الليلة حين خلعت بدلتي العسكرية، شعرت حينها أنني أنزع جلدي. نهاية كانت سريعة جداً ومؤلمة، وغير متوقعة. كنا نعتقد أن الجهاد في البوسنة سيستمر إلى الأبد. وما زلت أتذكر كيف أقسم خالد شيخ محمد وهو يبكي ويمسح دموعه وقال: (أقسم بالله إنني سأنتقم من أميركا). كان يرى أن اتفاق البوسنة أكبر صفعة على وجه المسلمين. فقلت له: هل قصدك أن نجلس هنا ونحارب؟ كيف؟ طائرات أمريكا ستمسح الكتيبة في يوم واحد إذا حاولنا أن نقاوم هنا؟ قال لي: من قال لك إننا سنقاوم هنا؟ (إن غداً لناظره لقريب)».
قضت معاهدة دايتون للسلام عام 1995 بتقسيم البوسنة إلى دولتين هما: فيدرالية البوسنة والهرسك وتضم المسلمين وكروات البوسنة، وجمهورية صرب البوسنة. وعلى الرغم من تحفظات المسلمين على الاتفاقية إلا أنها ساهمت في إعادة الحياة والأمان إلى البلاد بعد سنوات من المذابح والمجازر. لكن المقاتلين العرب وجدوا أنفسهم أمام صفقة هم الخاسر الأكبر فيها، حيث قضت الاتفاقية التي وقعها الرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيغوفيتش بحل كتيبة المجاهدين العرب، وإخراجهم من البوسنة، ومن هنا بدأت تتخمر في رؤوس المقاتلين العرب فكرة الانقلاب على الحكومة البوسنية الجديدة، تهامسوا فيما بينهم حول إمكانية مواجهة الجيش البوسني، بعد أن كانوا قبل أيام رفقاء وحلفاء في قتال العدو الصربي.
يروي العميل رمزي في مذكراته - يصعب التأكد من شخصيته، إثباتاً أو نفياً، لكن المعلومات التي يوردها جديرة بالاطلاع- جانباً من الكواليس التي دارت بين المجاهدين العرب حال إقرار معاهدة السلام، وكيف كانت آخر معركة خاضها المقاتلون العرب هناك، فيقول: «المعركة الأخيرة كانت معركة بدر البوسنة في سبتمبر 1995، في الدقائق العشر الأولى من المعركة قُتل سبعة منا وبقيت أنا وزميلين لي. كان المقاتلون العرب والأجانب في تلك المعركة نحو 500 مقاتل، قُتل منهم 48 وجرح أكثر من 91. بعد المعركة طلبوا مني الذهاب إلى مدينة زافيدوفيتش للمساعدة في إسعاف الجرحى، وفور وصولي إلى هناك تزحلقت بالدم من غزارته، كان يوماً من أصعب أيام حياتي. كان الجرحى يمسكونني من قميصي يطلبون الماء ولم استطع تزويدهم بالماء لأنه سيزيد نزيفهم.. لكن في الأخير انتصرنا في المعركة، وتحررت نحو 56 قرية بوسنية ورفع الحصار عن مدينة مجلاي وعن الخط السريع بين زينيتسا ومدينة توزلا. وقتلنا نحو 300 مقاتل صربي. وتحررت خمسة في المئة من أراضي البوسنة». يضيف رمزي: «بعد كل هذا التقدم والتضحيات ضغطت الدول الغربية على البوسنيين لعقد سلام بينهم وبين الصرب. لم نكن مقتنعين بعملية السلام تلك. كان هناك شعور بأن ما حصل تآمر على مسلمي البوسنة. في شهر ديسمبر وصلتنا معلومات بأن اتفاقية السلام ستمنح الصرب الذين يشكلون فقط 35 في المئة من سكان الجمهورية نحو 49 في المئة من الأراضي، في حين أن المسلمين الذين يشكلون 49 في المئة من السكان عليهم أن يتشاركوا مع الكروات مناصفةً في الأراضي. باختصار، كانت اتفاقية السلام مكافأة لمرتكبي الجرائم ومعاقبة للذين ضحّوا. في 12 ديسمبر جمع القائد أنور شعبان المصري المقاتلين في مسجد الكتيبة العربية، وأخبرنا أنه سيذهب للتحدث إلى القيادة العسكرية البوسنية لإقناعهم بأن الاتفاقية ظالمة وغير عادلة وأن لديهم أحد خيارين: إما الاستمرار في القتال والانقلاب على الرئيس علي عزت بيغوفيتش، أو القبول بالاتفاقية. ثم تشاور المقاتلون العرب فيما بينهم حول فكرة الانقلاب على القيادة البوسنية العسكرية في حال أصرت على قبول الاتفاقية».
ويبدو أن أحاديث ومشاورات المقاتلين العرب قد تسربت إلى الجهات والأطراف العسكرية الفاعلة في الأرض من السكان المحليين، فحدثت واقعة في 14 ديسمبر 1995 قصمت ظهر كل أمل للمقاتلين العرب من استمرار القتال بالبوسنة، «ففي 14 ديسمبر عقد اجتماع بين المقاتلين العرب بقيادة أنور شعبان ونائب قائد لواء المجاهدين أبو الحارث الليبي وأمير العرب في اللواء أبو زياد النجدي ونائب أمير العرب اسمه انجشه الشرقي من السعودية، وبين الجيش البوسني. وفي طريق عودة قادة المجاهدين العرب المذكورين من اجتماعهم مع القيادة العسكرية البوسنية كان يجب عليهم المرور عبر قرية كرواتية اسمها (جبشه) تقع ما بين مقر القيادة العسكرية البوسنية وما بين مدينة زينيتسا مقر قيادة لواء المجاهدين. في هذه القرية كان هناك حاجز عسكري، وتم توقيف المجاهدين القادة الخمسة على هذا الحاجز الذي تديره القوات الكرواتية لمدة نصف ساعة. وبعد ذلك، على بعد 50 إلى 60 متراً جاءت شاحنة من جنح الظلام، وخرج منها أعداد كبيرة من المسلحين.. وفجأة قاموا بإطلاق النار على سيارة المقاتلين العرب فقتلوا جميع من فيها بسرعة خاطفة».
يعلق العميل رمزي حول هوية الجهة التي قامت بإطلاق النار: «البعض يقول بأنها الاستخبارات الكرواتية، ومنهم من يقول أن الاستخبارات العسكرية تعاونت مع القيادة البوسنية لأنهم كانوا يعتقدون أن المجاهدين العرب سيسببون لهم المتاعب»، لذلك يجب التخلص منهم سريعاً. هذه الواقعة تكشف لنا عن المنطق الرئيسي في عقلية الجماعات المقاتلة التي تسعى دائما إلى الحفاظ على حالة (الحرب المستمرة)، فأكبر خطر يهدد الجماعات المسلحة، وأكبر عامل قد يفككها ليس «العدو» المباشر الذي تقاتله، وإنما انتهاء الحالية القتالية أو فتورها، لذلك تحرص الجماعات المسلحة على خلق حالة مشتعلة مستمرة من الحرب، والبحث عن «الأعداء» المناسبين للمواجهة والقتال في كل مكان من بقاع الأرض، لأن عقلية الجماعات المسلحة لا تعرف لغة يومية للعيش سوى حمل السلاح، ولا تتقن فناً للإدارة والتنظيم سوى العملية الحربية العسكرية، والأمر ذاته يتضاعف في حالة المقاتلين الأجانب، فاستمرار العملية القتالية غاية أساسية بحد ذاتها، لأنها المبرر الأول لوجودهم وبقاءهم في الأرض التي وفدوا إليها، فأي محاولة لتسوية الأزمة ستعني أن مشروعية بقاءهم انتهت، ورخصة سلاحهم قد تلاشت، وقد يصبحون فيما بعد عبئاً وأزمة. لهذا نجد اليوم أن أكبر العقبات التي تعيق التوصل إلى اتفاقيات سلام، أو مصالحة في الدول التي ترزح تحت نير الحروب الأهلية هو وجود المقاتلين الأجانب الذين يسعون بكل وسيلة إلى إعاقة أي مشروع لإنهاء الحرب، لذلك الطريق نحو إحلال السلام يبدأ بالتخلص منهم سريعاً قبل أن تتفاقم المشكلة، وهو الدرس الذي استوعبته البوسنة مبكراً.
صحيفة عكاظ
أضيف بتاريخ :2017/05/13