آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. يوسف مكي
عن الكاتب :
دكتوراه في السياسة المقارنة - جامعة دينفر كولورادو. - رئيس تحرير صحيفة الحقيقة الأسبوعية، ورئيس التجديد العربي ومشارك في مجلة المستقبل العربي أستاذ محكم بمركز دراسات الوحدة العربية. - عضو في العديد من اللجان والمؤتمرات. - صدر له مؤلفات منها ولا يزال البعض تحت الطبع.

اللغة ودورها في تكوين الأمم


يوسف مكي

في المقالة السابقة، التي حملت عنوان «المشروع النهضوي العربي والمرحلة الراهنة» قدمنا قراءة نقدية للفكر القومي العربي، من حيث إنه استند على الماضي، في تأكيد الحاضر. وقلنا إن الأمة العربية المعاصرة نسخة جديدة، وليست لها علاقة بالماضي التليد، سوى علاقة الوجدان والذاكرة. كما اعتبرنا التركيز على اللغة باعتبارها العنصر الأهم في تشكيل الأمة العربية، قد جعل المنتمين إلى الجغرافيا العربية، من غير الناطقين بلغة الضاد أقل مواطنة من إخوانهم العرب. ولذلك رأينا ضرورة أن يراجع الفكر القومي أدبياته، ويعطي أهمية للجغرافيا والعيش المشترك، كعنصرين مهمين في تشكيل الأمة، لتجنب المشاكل التي تهدد الأمن القومي، بسبب النزعات الانفصالية، للمكونات غير الناطقة بالعربية، داخل بنيان الأمة.

في هذا الحديث، نناقش مفهوم الأمة، ليس بالمفهوم التراثي الذي حملته المصادر العربية القديمة، ولكن في مفهومها السياسي المعاصر، الذي ارتبط بنشوء الدول القومية في القارة الأوروبية. ومن ثم مناقشة هذا المفهوم في علاقته بالأمة العربية، وبالوضع المتشظي الراهن، وبشكل خاص في علاقة اللغة والجغرافيا بتشكيل الأمم، ومن بينها أمة العرب.

جمعت اللغة اللاتينية، معظم دول القارة الأوروبية، تحت سقفها. لكن هذه اللغة، شأنها شأن مختلف لغات العالم، حملت لهجات مختلفة؛ وذلك بسبب الانقطاع في الجغرافيا، فيما قبل الثورة الصناعية، وتطور مختلف أشكال النقل الحديثة.

الدول الأوروبية الحديثة، لم تكن موجودة قبل عصر القوميات، لكن التطور التاريخي، ونشوء الطبقة الرأسمالية، أوجد حاجة ماسة، لأسواق أوسع، وكسر الحواجز الجمركية.

وقد أدى التباعد بين اللهجات اللاتينية، إلى أن تمسي كل لهجة لغة مستقلة قائمة بذاتها. وحين تشكلت الدول الأوروبية الحديثة، وفي مقدمتها ألمانيا بسمارك، وضعت حدودها على أساس اللغة.

ومن هنا فإن الاستخدام الحديث للدولة المعاصرة، في القارة الأوروبية، يتطابق مع مفهوم الأمة. ومن هنا جاء تعبير الدولة القومية. والإشارة هنا إلى أقوام ينطقون لغة مشتركة، ويعيشون في جغرافيا مشتركة، ضمن حدود حكومة تمارس سلطتها في نطاق هذه الجغرافيا.

ومن هنا حالة الارتباك، في القاموس العربي، تجاه مفهومي الأمة والدولة، لأنهما في واقعنا منفصلان تماماً. فالأمة على رغم كل العناصر الإيجابية، التي تحرض على وجودها ليست قائمة في شكل دولة، رغم كونها مثلت طموحاً كبيراً، لدى نخب عربية واسعة، منذ منتصف القرن الثامن عشر، لكن تحقيقها كان ولايزال رهنا بالإرادة والقدرة، وليس للعرب في حاضرهم، ما يشير إلى توافر القدرة أو الإرادة من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل.

في الواقع العربي، تستخدم الدول مفهوم «القومي»، مكثفا في كل مجالات أنشطة الدولة. فهناك دخل قومي، ومحصول قومي، ومجالس قومية. وتشير هذه التعابير، إلى حالة الدولة التي هي جزء من الأمة.

لا يوجد في اللغات الحية الأخرى، تمييز واضح بين الوطني والقومي، لأن حالة الارتباك هذه ليست موجودة لديهم. فالدولة الحديثة، التي ارتبطت بالثورات الصناعية، قامت على أسس قومية، ومن هنا فليس هناك تضارب بين مفاهيم الدولة والأمة والوطن.

فكرة الأمة العربية المعاصرة، ارتبطت باللغة. وذلك بديهي لسببين رئيسيين: الأول أن زعماء اليقظة العربية التي انطلقت من بلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين) هم في غالبيتهم من المسيحيين. وقد جاء تأسيس حركة اليقظة كرد فعل على السياسة العنصرية، بحق العرب من قبل السلطنة العثمانية. وكان المسيحيون أكثر عرضة للاضطهاد من إخوانهم العرب المسلمين، ذلك أنهم كانوا عرضة لاضطهاد قومي وديني في آن واحد. أما المسلمون، فكانوا يشاركون العثمانيين الانتماء للدين الإسلامي الحنيف. وكانت معضلتهم مع العثمانيين تتلخص في الاضطهاد القومي الذي يتعرضون له ليس غير.

من هنا ركزت حركة اليقظة العربية، على اللغة كعنصر حاسم، ووحيد في تشكيل الأمة العربية. صحيح أن الجغرافيا والتاريخ والدين ذُكروا كعناصر مهمة في تشكيل الأمة، لكن جميع هذه العناصر، تحيل إلى الناطقين باللغة العربية، وليست معنية بغيرهم.

وقد ساعد على قبول ذلك، الدور التاريخي للقرآن الكريم، في حماية اللغة العربية، إبان الهيمنة العثمانية، وأيضاً الهيمنة الاستعمارية الأوروبية، على بلدان المغرب العربي. لقد حمى القرآن الكريم، لغة العرب، وبه اكتسبت هذه اللغة قداسة خاصة، كونها لغة الوحي، الذي أنزل من الله.

وربما كان اعتبار اللغة عاملاً حاسماً في تشكل الأمة، من قبل رواد حركة اليقظة العربية، أمراً طبيعياً في حينه، فسكان بلاد الشام، في غالبيتهم هم من العرب. وما هو متواجد من أكراد وشركس وأرمن في تلك الفترة، هم بحكم الضيوف الوافدين، لبلاد الشام، وليسوا من سكانها الأصليين. لكن هذه الحال، لا ينسحب على سبيل المثال، على العراق، التي تضم ما يقرب من 20 في المئة من سكانها من الكرد. كما لا ينسحب على السودان، الذي ينتمي سكان الجنوب فيه، إلى لغات إفريقية. وأيضاً جملة الإشكاليات مع الإخوة الأمازيغ، المتواجدين في أكثر من أربعة أقطار عربية.

لكن ذلك، أوجد معضلة أخرى، في الواقع العربي. فتجاهل انتماء غير العرب للأمة، جعلهم يشعرون بأن انتماءهم للبلدان العربية، منتقص وأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وقد شجع هذا الواقع على بروز نزعات انفصالية، بدأت تفصح عن نفسها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في خط بياني متصاعد، كما هي الحال في شمال العراق وجنوب السودان، والأطروحات التي تبرز بين فينة وأخرى، لأقليات تعتبر نفسها من أجناس عرقية مختلفة.

ذلك يعيدنا مرة أخرى، إلى عناصر تشكل الأمم. فهناك أمم عريقة كالهند والصين، تضم عشرات اللغات، ومع ذلك تشكل كل منها أمة واحدة. وعنصر تشكيل هذه الأمة ليس اللغة، بل الجغرافيا الموحدة والعيش المشترك.

في هذا السياق، لا مناص من المراجعة المستمرة، للفكر السياسي العربي، وتطويره على أساس يضمن السلم الاجتماعي وحقوق المواطنة والعيش المشترك، وأيضا يضمن الدفاع عن الأمن القومي والوطني للأمة.

صحيفة الوسط البحرينية

أضيف بتاريخ :2017/05/19

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد