الدين والثقافة .. وخطاب التحريض والكراهية
ليون برخو
المكتبة الأكاديمية بصورة عامة تفتقر إلى دراسات رصينة حول خطاب التحريض والكراهية وعلاقته بالدين والثقافة. ورغم أن دراسات تحليل الخطاب تتبناها الجامعات في الغرب، إلا أن أغلبها تعنى بشؤون السياسة بصورة عامة وعلى الخصوص الطريقة التي تغطي بها وسائل الإعلام الأحداث. خذ مثلا القضية الفلسطينية والصراع العربي ـــ الإسرائيلي. هذه المسألة أشبعها أساتذة الخطاب نقاشا وبحثا، وهناك كم هائل من الدراسات والأبحاث تتناولها من شتى الجوانب ولا سيما التغطية الإعلامية التي ترافق هذا الصراع. وما يؤخذ على هذه الدراسات رغم أهميتها، أنها لا تزال حبيسة القلاع الجامعية. وهذه ظاهرة مؤسفة لأن أغلب الحقول العلمية لها علاقة وطيدة بين النظرية والممارسة عدا الدراسات التي تعنى بشؤون الخطاب الإعلامي. بمعنى آخر، لا يمضي وقت طويل على الاستنتاجات التطبيقية التي يتوصل إليها الأكاديميون في هذه الحقول حتى تأخذ مداها في عالم الممارسة. ورغم أن الخطاب بصورة عامة والخطاب الإعلامي بصورة خاصة أقرب إلى الواقع الاجتماعي من أي حقل معرفي آخر في العلوم الاجتماعية، إننا نرى جفاء يصل أحيانا حدّ الامتعاض لدى ممارسي الإعلام من الاستنتاجات التطبيقية التي تأتي بها الدراسات الأكاديمية. والسبب واضح لكل ذي بصيرة. الخطاب الإعلامي حمال لأطر لغوية ورمزية تنحو صوب التحزب والتحامل والانحياز ومنها ما يلامس التحريض والكراهية. أساتذة تحليل الخطاب بإمكانهم اليوم الإشارة إلى هذه الأطر وتحذير مستخدميها من تبعاتها الخطيرة، ولكن النظرية شيء والممارسة شيء آخر. دراسات تحليل الخطاب حديثة العهد ولا سيما الشق النقدي منها، ومن ثم الفكر الإنساني برمته يفتقر إلى فرضيات فلسفية معمقة لتقييم وقياس الشر الذي يكمن في النفس البشرية والطريقة التي يعبّر بها الإنسان عن هذا الشر من خلال النطق والكتابة. ممارسة، كلنا تقريبا لدينا أمثلة كثيرة للشرور التي اقترفها البشر. ولكن الأمثلة في الغالب تخص الثقافة والدين أو حتى المذهب أو الميل المعاكس لنا. بعبارة أخرى، نحن نعرف الشر ولدينا كثير من الأمثلة له من خلال تطبيق قياساته ومعاييره على المختلف عنا. في غياب تنظير فكري، كلنا تقريبا ننسب الخير لأنفسنا وثقافتنا وديننا أو مذهبنا أو ميلنا، ونرمي الشر خارج نطاق ما نحن عليه، وإن اقترفناه، لنا في الغالب من المبررات والذرائع والحجج ما يجعل الشر في عيوننا ربما بردا وسلاما. أنكى من ذلك، لم نكن نعرف لماذا وكيف ينمو الشر في النفس البشرية؟ ولماذا وكيف يتحول إنسان ما إلى وحش يقترف من الشرور ما لا يمكن تخيله في سبيل ما يرى أنه دفاع عن ثقافته وعرقه ودينه وميله؟ شرور مهولة مثل النازية والفصل العنصري والفاشية والاستعمار ومحاكم التفتيش والغزو والبطش لفرض ثقافة محددة على أخرى، رافقت البشرية طوال تاريخها حتى يومنا هذا. ورغم ما خلفته وتخلفه من دمار ومآسي وأهوال وضحايا أبرياء بأعداد لا تحصى، لم يكن بمقدورنا تقديم إطار نظري أو فكري لفهم واستيعاب الشر في داخلنا. واستمر الحال هكذا والعالم لا يكاد يطوي صفحة عهد شرير محدد حتى يدخل في عهد أكثر شرا منه حتى قدوم كتابات الفيلسوفة حنا أرندت التي فككت الشر لنا وعرفتنا ليس به فحسب بل علمتنا كيف ولماذا يقترفه البشر وهم في كثير من الأحيان لا يشعرون أو قد يتصورون أن أعمالهم الشريرة ما هي إلا لخير وسعادة وحماية ثقافتهم ودينهم وميلهم أي: طريقة حياتهم. أرندت وضعت فرضيات فكرية رصينة قالت فيها إن الشر أصله وجذوره خطاب (ربما مفردة واحدة)، في اللحظة التي أستخدم فيها إطارا خطابيا للانتقاص من الآخر لأنه من الثقافة الفلانية أو الدين الفلاني أو الميل الفلاني، فإنني في واقع الأمر في طريقي صوب التحريض والكراهية. والنازية، وهي من أكثر الشرور طرا في تاريخ البشرية، وكانت أوروبا مرتعا لها، لم تكن إلا كلمة "خطاب" في بدايتها، استند إلى مفردات وعبارات مشحونة لتهميش من لا يسير في ركبها أو ليس من أتباعها عرقا وثقافة ولونا وغيره. أرندت تعلمنا من خلال فرضيات فكرية معمقة أن علينا مراعاة الخطاب نطقا وكتابة، وأننا ننحو صوب التحريض والكراهية حتى لو سألنا شخصا من أي بلد هو أو إلى أي ثقافة أودين أو مذهب أو ميل ينتمي. وإن لم نتخلص من أطر خطابية كهذه، ولا سيما التي تضعنا في خانة ثقافية أو عرقية أو دينية أو مذهبية أو جنسية أو لون أسمى من الآخر أو نحاول فيها تشخيص المختلف قصد تهميشه، فإن جني النازية أو الشرور المرعبة الأخرى في قمقمنا تنتظر فقط اللحظة المناسبة للولوج إلى الواقع. لا غرو أن نرى كتابات أرندت وفرضياتها ونظرياتها الفكرية تأخذ حيزا كبيرا في الدراسات النادرة المؤثرة أكاديميا التي تتناول خطاب التحريض والكراهية وعلاقة الدين والثقافة بهما.
الخشية هي أن تبقى فرضيات أرندت وفكرها النير مع الجهد الذي يبذله الأكاديميون لتطبيقه في دراساتهم لتحليل الخطاب، والخطاب الإعلامي منه خصوصا، حبيس منشوراتهم العلمية المحدودة الانتشار أو جرار مكاتبهم.
صحيفة الاقتصادية
أضيف بتاريخ :2017/05/19