أنتعلم من تعليم يفتقد للعلم أصلا
فيصل الجهني
هل ما ينتج من مخرجات في المؤسسات العلمية والتعليمية في بلادنا، يكون بشكل محايد وموضوعي، لا اعتبار فيها إلا لأسس العلم ومنهجياته؟
الأزمة الخالصة التي تواجه الخطاب العلمي التعليمي لدينا تكمن في غياب النتائج المثمرة والمخرجات الواقعية الحقيقية، وذلك لأن ذلك الخطاب لم تتوفر فيه الشروط اللازمة لأي حراك علمي تعليمي جاد ومخلص، ولم تتوفر له البيئة المثالية المناسبة لتخلق العلم ومنظومة التعليم، بشكل يضمن لها النمو الصحيح والإخصاب التراكمي الخلاق! ولعل أهم تلك الشروط هو ما يؤكده (توماس كون) في أن «العلم ليس ظاهرة فردية، وإنما هو ظاهرة اجتماعية تحمل الهم العلمي ذاته».
وهذه الجماعة العلمية تتشكل على أسس أخلاقية، وأخرى معرفية (تتكون من مجموعة القوانين والأدوات المنهجية، التي يمارس الباحثون بحوثهم على ضوئها، والتي تعرف بالباردايم).
الأسئلة في هذا (الصدد): هل لدينا مثل تلك الجماعات العلمية التي (يتشرعن) معها مفهوم العلم؟ وهل حملت غايات وأنشطة مؤسساتنا العلمية والتعليمية والثقافية ذلك (الهم) الجماعي العلمي؟ أم أننا نرتهن إلى جهود فردية واجتهادات شخصية ومخرجات ثقافية نخبوية؟! وهل تدرك مؤسستنا التعليمية هذا المفهوم الجماعي للعلم، أم أن المسألة لديها ليست سوى (تعليم) الأسس التعليمية، التي من شأنها - فحسب- أن تلغي الأمية في المجتمع أولا، ثم (تحشو) العقول الناشئة بمعلومات (إمبريقية) من هنا وهناك، لا تبلغ لغاية، ولا تصل للعقول إلا معلبة جاهزة باردة، بدلا من أن (تتخلق) في حضرة جماعات علمية صغيرة في البداية.. خطوة خطوة، لتصل طرية حية متحركة، ترسخ في الذهنية العامة، ولا تغادرها للأبد! تشتهر في بلاد (العلم) الحقيقي منظومة قيمية من أربعة أركان، تضبط حراك النخبة العلمية وعلاقاتها، وهذه القيم يتشارك كل عنصر في الجماعة/ النخبة العلمية في حمايتها بشكل جاد وصارم، وهذه القيم أولها (الشمولية): والتي تعني عدم اعتبار للاختلافات العرقية والإيديولوجية والجنسية في مسألة العلم، من خلال إعطاء الأولوية دائما للمعرفة فقط.
وثانيها: (عدم احتكار المعرفة) بحيث لا يدعي أحد امتلاك الحقيقة والمعرفة، ومن جهة أخرى لا يجب أن ينظر إلى منتجي المعرفة نظرة تقديس، تجعلهم بمنأى عن النقد والاعتراض.
أما ثالث القيم فهي (النزاهة العلمية): والتي تضمن عدم إتباع المحسوبيات و(الواسطات) بغية الحصول على الشهرة والوجاهة الاجتماعية والمكانة العلمية. و(آخر) تلك القيم استقلالية الجماعة العلمية عن أي سلطة سياسية أو تجارية أو اجتماعية.
الأسئلة التي تطرح نفسها في تلك الأثناء: هل ما ينتج من مخرجات في المؤسسات العلمية والتعليمية في بلادنا، يكون بشكل محايد وموضوعي، لا اعتبار فيها إلا لأسس العلم ومنهجياته؟ وألا ينظر عامة مجتمعنا -دائما- إلى طيف علمائهم نظرة مقدسة، تجعلهم بعيدا عن أي نقد، حتى ولو جاؤوا بالعجائب والغرائب من أحكام و(فتاوى)! وهل مسائل القبول للدراسات العليا خاصة و(الترقيات)العلمية والشهادات و(التوظيف) في البيئات التعليمية (الأولى) والأكاديمية تجري على أسس نزيهة ونقية وعلمية فقط؟!..وبعد ذلك، فهل عمل المؤسسات التعليمية والثقافية (بتجلياتها المتنوعة من نواد أدبية ووسائل إعلامية و..و..) يتم بمعزل عن أي تأثيرات (من أي نوع..)؟! وربما، فيما يتعلق باستقلالية المؤسسات العلمية والثقافية يجدر القول بأن الجامعات العريقة الكبرى في العالم حرصت أبدا على ألا تتعرض (جماعتها العلمية) لابتزاز من أي نوع، حيث دأبت على تطوير ما يسمى بنظام (الوقف)، الذي يضمن لها استقلالية مالية، وأريحية في تمويل البحوث والمشاريع (أصول أوقاف جامعة هارفارد مثلا بلغت حوالي 32 مليار دولار في عام واحد فقط، وأوقاف جامعة «ييل» تبلغ حوالي 25 مليار دولار، هذا من غير مدخلاتها من تمويل الشركات للبحوث العلمية ومن رسوم الدراسة، ولمثل تلك الجامعات شركات متخصصة في تثمير ومضاعفة تلك الأوقاف)!..يبدو أن الموضوع يحتاج إلى نثار آخر..قريبا بإذن الله.
أضيف بتاريخ :2017/05/24