«أزمة الخليج»: أمورٌ خفيّة
عامر محسن
حين تراوح التحليلات التي تبحث عن «السبب الحقيقي» خلف الخلاف الخليجي، وما جعله ينفجر فجأةً بهذا الشكل العنيف، بين من يقول إنها بسبب الموقف من إيران و«الإخوان»، ومن يقول إن المسألة تتعلّق بالغاز، وبين نظرية الفدية التي يُقال إنها دُفعت لأطراف عراقيّة، فهذا يعني ببساطة أنّ لا أحد يعرف ما هو «السبب الحقيقي» للخلاف، وما هي الخطّة التي تسير عليها الحملة ضدّ قطر.
يضيف إلى تعقيد المسألة أنّ أطراف الحملة ليسوا «صادقين» بالكامل في تعداد حججهم ومطالبهم، فيقولون ما يعتبرون إنّه سيلقى رواجاً في الغرب وصدىً لدى حكوماته ولوبياته (من قبيل دعم «الإرهاب» وتنظيم «القاعدة»)، ولا يعبّرون عن مشكلتهم الحقيقية مع الدّوحة. على سبيل المثال، «قائمة الإرهاب» الخليجيّة التي تمّ نشرها مؤخراً تستنسخ فعلياً اللوائح التي تروّج لها، منذ سنوات، مؤسسات مثل «معهد الدفاع عن الديمقراطيات» في واشنطن، وتحاول عبرها إقناع السياسيين الأميركيين بعلاقاتٍ بين الدّوحة و«القاعدة» وتوثّق تاريخها (مضافاً إليها أسماء لمعارضين من مصر والبحرين، مقيمين في قطر وقد صدرت ضدّهم أحكام قضائية في بلادهم). ولكنّ الكلّ يعرف أنّ هذه اللوائح هي لـ«إحراج» الدّوحة أمام الغرب، وأنّ «الثورة» الخليجية ضدّها لا علاقة لها بدعم الزرقاوي في العراق أيام الاحتلال الأميركي أو باسترداد وجدي غنيم.
في الوقت ذاته، فإنّ كلّ التحليلات تظلّ ناقصةً ومحدودة القيمة حتّى نفهم الموقف والدّور الأميركي، وهل يوجد أصلاً دورٌ أميركي في القضية؟ هنا الميدان الأساسي للتنافس الخليجي، وهنا الموقف المحوريّ الذي يقرّر كلّ شيء. فلنكن واقعيين، على عكس ما تروّج له وسائل الإعلام السعودية التي تزعم بأنّ قطر تستجدي حماية تركيا وإيران، فإنّ واشنطن هي الوحيدة التي تحمي قطر ونظامها اليوم، ولو تغيّر الموقف الأميركي من النّظام فلن تحميه إيران ولا تركيا، ولا حتّى الصّين. لأجل هذا سبّبت «تغريدة» لدونالد ترامب على «تويتر» نقاشاً واهتماماًَ وهلعاً في الخليج أكثر من كلّ ما قيل وفُعل خلال الحملة. (ولهذا أيضاً، لا يهمّ الموقف الذي تأخذه ــــ أيّها العربي ــــ من الأزمة، وكلّ ما نراه حولنا من اصطفاف إعلاميين ونشطاء ما هو إلّا عملية إثبات ولاء، لن يقدّم ولن يؤخّر). البعض يقول إنّ هذه الأزمة تقسم الصفّ الخليجي ومنظومة «مجلس التعاون»، ولكنّ لا شيء جديداً هنا، فالمجلس ــــ لو تفحّصت تاريخه ــــ لم يكن يوماً منظومةً موحّدة، والعلاقات بين حكومات الخليج لم تكن يوماً صافية. ولولا الدّور الأميركي الذي يجمع هذه الحكومات في مواقف أساسيّة، ويضع سقفاً للسياسة الإقليمية، لكانت هذه السّلالات لا تزال تتحارب وتتبادل الغزو، كما كان الحال قبل قرنٍ من الزمن، وأبناء العمومة يقتلون بعضهم البعض في صراعات الخلافة.
نظريات مؤامرة
بغضّ النّظر عن التأويلات، فإنّ مقاطعة عدّة دولٍ خليجيّة لقطر تُظهر احتمالاتٍ لمكاسب معيّنة قد تكون في ذهن خصوم الدّوحة، وتعكس عناصر التنافس الخليجي، وإن لم تظهر في واجهة الأحداث. شروط المقاطعة كانت استثنائية في قسوتها وغير متوقّعة، كمثال حظر المجال الجوّي لعدّة دولٍ على الطيران التجاري القطري. هذا لا يحصل حتّى في حالات العداء المفتوح؛ والدّول تسمح لطائرات خصومها المدنية بالعبور في أجوائها حتّى حين تُقطع العلاقات ويُمنع التبادل بين البلدين ــــ وهذا عرفٌ عقلانيّ لأنّه يخدم مصلحة الجميع ويبقي هذه الحاجات الأساسية للناس والتجارة خارج حلبة السياسة. في عزّ أيّام الحرب الباردة، كانت شركات الطيران الغربية تستخدم أجواء الاتّحاد السوفياتي للعبور إلى آسيا واليابان (وكانت تدفع رسوماً للحكومة ولـ«ايرفلوت»). حتّى في عزّ الحرب السورية والحملة الخليجية ضدّ دمشق، ظلّت أجواء هذه الدول مفتوحة لعبور الطيران السوري، بل وقامت شركات سوريّة برحلاتٍ إلى الإمارات ومطار الشارقة.
هناك نظريّة هنا، لا يمكن استبعادها، عن أنّ الحظر يمثّل ــــ من بين أهدافه السياسية ــــ ضربةً للخطوط الجوية القطرية، وخدمةً لخطوط «الإمارات» تحديداً. لا يجب التقليل من حدّة المنافسة بين الشركات الخليجية «العالمية» للطيران، وهي ثلاث: واحدة في قطر واثنتان في الإمارات، وأنّ التناطح الأساسي هو بين «الإمارات» و«القطرية» اللتين تعتمدان نموذجاً مشابهاً وتتنافسان على الخطوط الدولية نفسها تقريباً. من أسباب انخفاض أرباح «الإمارات» في السنوات الماضية، على الرغم من انخفاض أسعار النفط وانتعاش صناعة الطيران عالمياً، كان منافسة «القطرية» ــــ وإخراجها من السّوق أو أضعاف نموّها سيمثّل خدمةً حقيقيّة لـ«الإمارات». «القطرية» هي الخاسر الأكبر: تضطرّ رحلاتها الآن إلى الالتفاف فوق إيران وأخذ طرقٍ طويلةٍ مكلفة، رحلاتها إلى أفريقيا تحديداً ستواجه مشاكل كبيرة وقد تصبح غير اقتصاديّة، وهذا يعني تأثيراً مضاعفاً لأنّ «القطرية» (كأ«الإمارات») تعتمد على «قنوات التغذية» كشبكتها الكبيرة في أفريقيا، لملء باقي رحلاتها الدولية. بنفس المعنى، خسرت «القطرية» كامل السّوق السعودي المهمّ وورثته غريمتها، فأكثر السعوديين في السنوات الأخيرة لا يستخدمون شركتهم الوطنية للرحلات البعيدة، بل يختارون بين «القطرية» و«الإمارات». بل إنّ خطّ دبي ــــ الدّوحة، الذي أُقفل، كان يُعتبر من الخطوط الكثيفة في العالم رغم مداه القصير، و«القطرية» كانت تجري أكثر من 19 رحلة يوميّة عليه وحده، وهذه كلّها طائراتٌ أضحت فائضة وعليك أن تجد لها مكاناً بديلاً. الوضع المالي لـ«القطرية» أصلاً لم يكن في أفضل أحواله. هذه العوائق الجديدة قد لا تؤدّي إلى إفلاسها ولكنّها، على الأقلّ، ستحدّ من وتيرة نموّها وتقلّص سوقها وربحيتها.
بالمعنى نفسه، من الجانب السعودي، هناك «نظريّة مؤامرة» أخرى عن طمع الرياض بغاز قطر لا يجب، أيضاً، صرف النظر عنها. السّعودية تواجه مصاعب مالية ومستقبلاً شائكاً، وطموحات محمد بن سلمان أكبر من موارده، وقد بدأ يفهم بأنه ليس وسعك أن تنفّذ تقشّفاً اقتصادياً، وتبني جيشاً عرمرماً، وإمبراطورية إقليمية في وقتٍ واحد. السّعوديّة، إلى ذلك، تحتاج إلى الغاز الطبيعي بصورةٍ ماسّة ولأسباب متعددة: لزيادة إنتاج النفط في حقولها عبر حقن الغاز فيها، لإنتاج الكهرباء (والتوقّف عن حرق السوائل عالية الثمن لتغطية الطلب المحلي الهائل)، ولصناعة البتروكيمياويات والمعادن ــــ والبلد لا ينتج غازاً يكفي لتغطية كلّ هذه الحاجات، بينما قطر تملك ثالث أكبر احتياطٍ في العالم. الاستفادة من ثروة الغاز القطري (سواء عبر ضمّ البلد أو عبر تنصيب نظامٍ «صديق») ستعطي دفعةً قوية للاقتصاد السعودي وتُنعش طموحات بن سلمان. غزا صدّام حسين الكويت عام 1990 لأنّه اعتبر أنّ الاستحواذ عليها سيقدّم، دفعةً واحدة، حلّاً لكلّ مشاكله وأزماته. وأكثر زعماء الخليج، وإن لم يقدروا ــــ لأسباب موضوعية ــــ على استنساخ حروب صدّام وجيشه و«ملاحمه»، إلّا أن عقليتهم لا تختلف عنه بشكلٍ جذري.
عن الخطاب والنفاق
هناك صنفٌ من النخب العربية لم يعد للنقاش معه جدوى، فهو يملك قناعاً لكلّ موقفٍ محتمل، ينظّر يوماً للواقعية والبراغماتية، ويوماً آخر للحقد الطائفي، ويوماً ثالثاً للديمقراطية وحقوق الشعوب، فهذه كلها لا تمثّل قناعاتٍ أو منهجاً، بل مجرّد أدوات خطابيّة. ولكنّ هؤلاء، على ما يبدو، يحتاجون إلى شرحٍ عن الفارق بين «الاصطفاف» و«التبعية». حين تهاجم، مثلاً، الحكم السعودي أو الإماراتي لأنّه تابعٌ لأميركا، ويتآمر ضدّ فلسطين، ويصدّر الخراب والرجعيّة، فهذا موقفٌ واصطفاف. ولكن أن تصمت على كلّ هذا فيما التآمر على فلسطين يجري، وسوريا والعراق واليمن تدمّر، والشعوب تشرّد، ثم تكتشف شرّ السّعوديّة وعمالتها حين تفتح الحرب مع قطر، فهذه تبعيّة، وليست خياراً مبدئياً ولا «واقعية».
بالمعنى نفسه، أن تسمّي مقاطعة قطر «حصاراً»، وتبدي التضامن مع القاطنين فيها فيما شعب اليمن يُحاصر منذ سنوات، ويجوّع وتعمّ فيه الأوبئة، فهذا نفاق (وقطر ليست في حصار، ولن تجوع، ولو اقترب هذا الاحتمال سنقف ضدّه جميعاً). ربّما أنّ حكّام الخليج يثمّنون حيوات العرب بشكلٍ مختلف، ويعتبرون أنّ حياة اليمني أو السوري أقلّ قيمةً من حياتهم، ولكن أن ينساق العربي في هذا المنطق، ويتوقّع من الفلسطيني أو من اليمني أن يتعاطف مع قطر لأنّ الخضار الطازجة قد تنقطع من السّوق عندهم، فهذا مخجل. في هكذا موقفٍ، تحديداً، يجب أن تذكّرهم باليمن وبما فعلت أيديهم، وبأنّ من أصيب بالكوليرا من أبناء اليمن وأطفاله ــــ بسببهم ــــ قد يفوق قريباً كامل عدد مواطني دولة قطر.
الإعلام القطري قد يغيّر لهجته، وقد نشهد مبادرات دبلوماسية في اتّجاهات مختلفة، ولكنّ من يتكلّم عن «عودة قطر إلى محور المقاومة» يمزح بلا شكّ. قطر، أوّلاً، لم تكن هناك حتّى ترجع، وإن كان هناك من درسٍ استخلصناه من تاريخنا القريب فهو أنّ الأنظمة التابعة ــــ على اختلاف تلاوينها ــــ ستقف صفّاً واحداً ضدّك في اللحظة الحاسمة، وستستثمر كلّ اختراقات السنوات الماضية في هذا المسعى؛ وأنّ كل من «أتى إلى المقاومة» بفضل المال القطري أو تحت إغرائه قد تبعه إلى جبهاته حين جدّ الجدّ، من أرفع سياسي إلى أصغر إعلامي.
خاتمة
يوجد تفاوضٌ بين قطر وأميركا على شراء 72 طائرة اف ــــ 15، بقيمة 21 مليار دولار؛ ابتدأ الكلام عنه في أواخر أيام باراك اوباما وقد عرض دونالد ترامب على الدّوحة، مؤخّراً، تحويله إلى عقدٍ مبرم. تشبه هذه القصّة الصفقات السعودية، بمعنى أنّ السعر مبالغٌ به بشكلٍ كبير (حين يُقارن بصفقات عالمية أو بالثمن الذي تباع به هذه الطائرات لسلاح الجو الأميركي)، ولا أحد يفهم كيف ستتمكّن دولة بحجم قطر من استيعاب كلّ هذه المعدّات واستخدامها، أو حتّى الهدف من اقتنائها (بلدٌ مثل العراق، أكبر بكثير من قطر، يحتاج إلى سنوات طويلة لتدريب وتنشئة كوادر تقدر على استيعاب ثلاثة أسرابٍ حديثة).
عدد الطائرات في هذه الصفقة يفوق أضعافاً عدد الطائرات المقاتلة التي تعمل حالياً في سلاح الجوّ القطري، وهي ربّما كانت ما أشار إليه دونالد ترامب خلال قمّة الرياض، حين تكلّم عن أنه سيبيع قطر «الكثير من الألعاب اللامعة». شركة «بوينغ» تقول إن الصفقة ضرورية لاستمرار خطّ إنتاجها في ساينت لويس، بعد أن توقّف الجيش الأميركي عن شراء المقاتلة وانصرف إلى نماذج أكثر حداثة. بمعنى آخر، بعد كلّ الكلام عن الحصار والمقاطعة وتغيير النّظام في الدّوحة، والتراشق واستعراض الأحقاد الإقليمية، والتنظيرات عن ضرورة الإصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك، فإنّ مفتاح الأزمة قد يكون في صفقةٍ بعشرين مليار دولار، و15 ألف وظيفة في ولاية ميسوري.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/06/10