الأزمة الخليجية من منظور جيو ــــ سياسي
د. مصطفى اللباد
شغلت قطر الدنيا والناس بعد الأزمة مع شقيقاتها الخليجيات: السعودية والإمارات والبحرين. ومثل العادة العربية، فقد انبرى أصحاب المصالح للمنافحة عن هذا المعسكر أو ذاك. سِيقت النعوت والأوصاف للمكاسرة، واستخدمت وسائل الإعلام بكثافة وانقسم الرأي العام بين فئة معارضة لقطر وأخرى مؤيدة لها. تنظر هذه السطور إلى الأزمة من منظور جيو ـــ سياسي، لتسليط الضوء على جوهرها وعناصر تطورها من دون الانحياز إلى أي من طرفيها.
لعبت قطر أدوارا إقليمية متفاوتة في العقدين الأخيرين، لكن أكثر هذه الأدوار وضوحاً وقوة ظهر مع المرحلة الأولى من «الربيع العربي»، أي تلك المرحلة الممتدة من انتفاضة تونس في نهايات عام 2010 وحتى الإطاحة بجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر منتصف عام 2013. تحالفت قطر مع تركيا وجماعة «الإخوان المسلمين» خلال الفترة المذكورة؛ لتشكل محوراً إقليمياً ثالثاً، يضاف إلى المحور الذي تقوده إيران، وذلك الذي تقوده السعودية. تمتع المحور الجديد بدعم الإدارة الأميركية بقيادة أوباما لتشكيل «محور سني» ثانٍ يمتلك القدرة على موازنة إيران من ناحية، ومواجهة الحركات الإسلامية الراديكالية من ناحية أخرى، أو هكذا فكرت إدارة أوباما.
وبالطبع كان هذا التصميم محتاجاً إلى تعبيرات برّاقة لتسويقه في الإعلام، فكانت مفردات «الربيع العربي» و«ثورة الشباب» و«الديموقراطية» و«حقوق الإنسان»، بغرض الوصول بسلاسة إلى تغيير التوازنات على الأرض وفقاً للتصور الأميركي «الأوبامي».
كان من الطبيعي وقتها أن يتم إبراز أدوار تركيا وقطر كفاعلين رئيسيين في هذا الربيع، فتطلعت الدول المهتمة بالمنطقة ساعتها بتحسين علاقاتها مع أنقرة والدوحة على هذه الخلفية. كما خصصت مراكز الأبحاث في الغرب كثيراً من دراساتها للحديث عن قوة «الإخوان المسلمين» وشعبيتهم في إشارة من طرف خفي إلى قدرتهم، بالتالي على خدمة التصميمات الأميركية للشرق الأوسط.
توترت علاقات قطر مع شقيقاتها الخليجية الثلاث في عام 2014 وقُطعت العلاقات أيضاً وسُحب السفراء، ولكن الأمر لم يصل إلى حد مقاطعة قطر بسبب وجود باراك أوباما في البيت الأبيض. الآن وبعد وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، وتطلعه إلى ضبط علاقاته الشرق أوسطية تظهر المعالم الأساسية للتصميم الأميركي الجديد تحت شعار «مكافحة الإرهاب» وبضمنه تقليم أدوار قطر الإقليمية.
فمن غير المنطقي تصور أن ما جرى قد تم من دون التنسيق مسبقاً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حتى مع ما قد يبدو من تفاوت في تغريداته بشأن الأزمة.
ينهض التصميم الأميركي الجديد للشرق الأوسط على تسوية ما للقضية الفلسطينية لتسهيل التفاهم العربي ــــ الإسرائيلي، وصولاً إلى مواجهة إيران بمحور إقليمي يضم الدول العربية الخليجية ومصر والأردن وإسرائيل. وفقاً لذلك، لم تعد الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إلى «الشبكات» التي تملكها قطر مع مختلف الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط وخارجه، كما أنها ليست بحاجة أيضاً إلى جماعة «الإخوان المسلمين» كجماعة إسلامية معتدلة؛ فالرئيس الأميركي الجديد ليس أوباما بأي حال ولا يريد من الأساس رؤية الفوارق بين جماعات الإسلام السياسي بتنويعاتها المختلفة.
تمدّدت قطر في الفترة الماضية أكثر من حجمها بكثير، ولم يعد ذلك الحجم متوافقاً مع التوازنات الدولية والإقليمية الآن، لذلك يجري ما نشاهده الآن لطي صفحة «الربيع العربي» الذي كان، والدخول في المرحلة الجديدة وما تستلزمه من متطلبات يأتي ضمنها تقليم أدوار قطر الإقليمية.
النظرة الأكثر صواباً ودقة للأزمة الخليجية تتمثل في ضرورة النظر إليها، باعتبارها خلافاً على الأدوار وليس الأفكار، فالأخيرة ليس مختلفاً عليها كثيراً بين الدوحة والرياض، كما أن كلتيهما ليستا عضوتين في جماعة «الإخوان المسلمين»، بل كلتاهما تستعملانها كورقة في المنازلات الإقليمية.
تأسيساً على ذلك، يقتضي الأمر تصويباً جيو ــــ سياسياً، لتوصيف قطر، ليس باعتبارها «ضحية» أو «مناضلة»، كما يقول مؤيدوها، أو «شريرة» كما يقول خصومها، وإنما باعتبارها دولة طامحة إلى لعب أدوار إقليمية عبر التنقل بمهارة بين التناقضات في المنطقة، فربحت في مرحلة سابقة عندما كانت الرياح مواتية، وربما تخسر الآن لانتفاء الحاجة الموضوعية إليها في التصميمات الجديدة للمنطقة!
جريدة القبس الكويتية
أضيف بتاريخ :2017/06/14