بريطانيا تواجه تبعات تحالفها مع السعودية
د. سعيد الشهابي
من المؤكد أن القطريين بدأوا يشعرون بالآثار المدمرة للحصار الذي فرضه التحالف الهش الذي تقوده السعودية ضدهم، ولكن أزمة كبرى غير معلنة تدور رحاها في العالم، خصوصا في أوروبا. وبرغم معاناة القطريين، فأن السعوديين لا يقلون أحساسا بالحصار الناجم عن سياسات الرياض إزاء العديد من القضايا المحلية والإقليمية والدولية. وما شهدته مدينة هامبورغ الألمانية قبل يومين من احتجاجات صاخبة ضد قمة الدول العشرين التي عقدت هناك، يؤكد أن العالم يعيش إرهاصات كبرى مرتبطة بتصدع النظام السياسي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية.
وإذا كان الغربيون قد شعروا بنشوة غير مسبوقة قبل ربع قرن وهم يرون الأمبراطورية السوفياتية تتصدع أمام أعينهم، فأنهم اليوم يشاهدون تصدع المشروع الغربي من داخله. فالاحتجاجات التي تصاحب انعقاد قمم الدول الصناعية لا تزداد توسعا فحسب، بل أنها تؤكد حتمية حدوث تغيرات جوهرية في الهيكل السياسي الغربي لأسباب عديدة من بينها الضعف البنيوي الذي تعاني منه الولايات المتحدة، ذلك التصدع الذي سمح لصعود شخص مثل دونالد ترامب إلى الرئاسة.
ومع أن أوروبا تعيش حالة من القلق منذ صدور القرار البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أن بريطانيا هي التي تعيش الهاجس الأكبر، وتشعر أنها محاصرة هي الأخرى. فقبل الاستفتاء كانت حكومة المحافظين تراهن على أمور ثلاثة: تعميق «العلاقة الخاصة» مع أمريكا، وتوسيع دورها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وتمتين التحالف مع دول مجلس التعاون الخليجي كمصدر مهم للمال الذي يساهم في خفض العجز في الموازنات وتصاعد الديون. ولكن في غضون أقل من عام اتضح أن الرهان البريطاني لم يكن في محله، وأن ثمة تحديات كبرى تنتظرها على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ويمكن القول أن العام 2017 يعتبر نقطة تحول في التاريخ البريطاني الحديث. فبالإضافة لقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي بعد استفتاء مثير للغط، تعاني بريطانيا من إعادة ترتيب موازين القوى السياسية داخل البيت البريطاني نفسه. فإذا كان قرار الاستفتاء مفاجئا للمؤسسة البريطانية، ومن ضمنها حزب المحافظين، فأن صعود التوجه الاشتراكي الذي يمثله حزب العمال بزعامة جيريمي كوربين، كان مفاجأة غير محسوبة النتائج. وكما أخطأ ديفيد كاميرون حساباته عندما أجرى الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي فجاءت بعكس ما كان يأمل، فقد أخطأت السيدة تيريزا ماي حساباتها هي الأخرى، فدعت لانتخابات كانت تتوقع أن تثبت حكومتها بشكل أقوى، ولكن لم يحدث ذلك، بل جاءت النتيجة معاكسة لما كانت تأمل به. ويوما بعد آخر يزداد حزب العمال برئاسة جيريمي كوربين قوة وشعبية. وقبل يومين فحسب أكدت الاستطلاعات أن شعبية الحزب بلغت 46 في المائة مقارنة بـ 38 بالمائة لحزب المحافظين الحاكم. وقد لا تكون هذه مشكلة في الأوضاع العادية، ولكنها تمثل أزمة كبرى للمؤسسة البريطانية حين يتزعم المعارضة شخص مثل جيريمي كوربين، ذي الاتجاه اليساري الثوري، الذي لا يخفي آراءه ومواقفه بل يدعو لإعادة هيكلة السياسة الخارجية البريطانية. ويمكن اعتبار تراجع شعبية حزب المحافظين الحاكم نتيجة عملية لعجز المؤسسة الحاكمة عن استيعاب تغير المزاج العام في المجتمع البريطاني وبداية تمرده على النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي أصبح عاجزا عن خدمة الطبقات الاجتماعية الضعيفة، حتى توسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء بمعدلات غير مسبوقة. أنها جانب من الأزمة الداخلية الناجمة عن تغول النظام المصرفي والشركات الكبرى وهيمنة رأس المال على مفاصل الحياة.
أما على الصعيد الخارجي، فان بريطانيا تواجه أزمات ذات أبعاد متعددة. فبالإضافة لإشكالات العلاقة مع أوروبا، خصوصا بعد قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وصعوبة مفاوضات ذلك الخروج، فهناك أبعاد جديدة ناجمة عن العلاقات التي سعى حزب المحافظين لتعميقها مع الشرق الأوسط، والتي أصبحت اليوم عبئا ثقيلا على السياسة البريطانية. وتجدر الإشارة إلى عدد من هذه القضايا:
الأولى تردد بريطانيا في اتخاذ موقف إزاء الأزمة التي ابتدأتها السعودية في الخليج مؤخرا، والتي استهدفت فيها قطر وحشدت كل ما لديها من إمكانات دبلوماسية ومالية لجر الآخرين لخوض حرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل. ويمكن اعتبار هذه الأزمة من أكبر التحديات للدبلوماسية البريطانية. ولوحظ حتى الآن عجز تلك الدبلوماسية عن اتخاذ موقف واضح، بل تسعى حكومة المحافظين لامساك العصا من الوسط ومحاولة الاحتفاظ بالعلاقات بين الطرفين. هذه السياسة أضعفت المصداقية البريطانية خصوصا بعد إعلان فيليب هاموند قبل أقل من ثلاثة أعوام، عندما كان وزيرا للخارجية
إن هناك ضغوطا مستمرة على الحكومة لوقف إمداد السعودية بالسلاح في حرب اليمن، ووقف التعاون اللوجستي والمعلوماتي والعملياتي في ما يتعلق بتلك الحرب الظالمة التي مضى عليها عامان بدون وجود مؤشرات لوقفها في المستقبل المنظور. وهنا تواجه الحكومة معارضة شديدة من المعارضة التي تصر على وقف السلاح عن الأطراف المشاركة في الحرب خصوصا السعودية. وسيظل هذا البعد عنصرا ضاغطا على حكومة المحافظين التي سعت دائما لاسترضاء السعوديين وغضت الطرف عن قضايا حقوق الإنسان والإصلاح السياسي. كانت بريطانيا تعد العالم أنها ستعود لمنطقة الخليج مجددا بسبب عزم أمريكا على نقل ثقلها العسكري إلى المحيط الهادئ وبحر الصين، ولكن هذه العودة تفتقد القيادة الدبلوماسية والسياسية الفاعلة. ولم يضف بناء قاعدة عسكرية بريطانية في البحرين للقدرات البريطانية التي أثبتت عجزها عن القيام بدور عملي لاحتواء الأزمة التي فجرتها السعودية مع قطر.
الثانية: حرب اليمن وتداعياتها على مدى قرابة الثلاثين شهرا ستبقى شهادة مفتوحة على تواطؤ أمريكا وبريطانيا مع السعودية والإمارات. وبرغم تصاعد الضغوط على بريطانيا لوقف دعمها العملياتي والاستخباراتي، يرفض حزب المحافظين وقف الدعم عن السعودية.
الثالثة: ساهم إصرار حزب المحافظين على تزويد السعودية بالسلاح والمعلومات فتح علاقة السعودية بدعم الإرهاب، وهي التهمة نفسها التي وجهتها السعودية لدولة قطر. الفرق أن الغربيين أصبحوا أكثر اهتماما بظاهرة الإرهاب التي ضربت عواصم غربية مثل بروكسل وباريس ولندن، والبحث في أسبابها. واهتمت وزارة الداخلية البريطانية بهذا الموضوع فقامت بتشكيل لجنة خاصة للبحث في مصادر تمويل المساجد البريطانية التي يلعب بعضها دورا في دفع الشباب نحو التطرف والإرهاب. وترفض السيدة تيريزا ماي الكشف عن التقرير ومحتوياته خشية تأثير ذلك على العلاقات مع السعودية. وأكد التقرير أن السعودية هي المروج الأجنبي الأكبر للتطرف الإسلامي في بريطانيا، وأشار أيضا إلى دور دبي كمركز لتبيض الأموال التي يستفيد منها الإرهابيون، الأمر الذي أحرج المؤسسة الحاكمة ومن شأنه التأثير على العلاقات التاريخية بين بريطانيا وكل من السعودية والإمارات. وهكذا أصبحت المؤسسة البريطانية مطالبة من قبل الرأي العام بكشف الحقائق حول هذه الظاهرة التي أدت إلى ثلاثة اعتداءات إرهابية في غضون ثلاثة شهور وأدت لقتل قرابة الأربعين شخصا.
التحالف البريطاني – السعودي مرشح للتصدع في الوقت الذي تحتاج السعودية فيه للدعم البريطاني في نزاعها المفتعل مع قطر. ويمكن القول بأن هذا النزاع فقد ديناميكيته تماما وسيتحول إلى تراشق سياسي وإعلامي فحسب. فقد سقط الخيار العسكري الذي كان الورقة الأقوى بأيدي التحالف السعودي ـ الإماراتي، فلا أحد سيوافق على استهداف قطر عسكريا. وعلى الجانب العملي تتمتع قطر بمنافذ للعالم عبر الحدود المشتركة مع إيران، هو الأمر الذي لم يتوفر لليمن. وجاء رفض قطر للشروط الثلاثة عشر ليصيب الخطة السعودية في مقتل لأن ذلك الرفض حاصر تلك الخطة وجعلها في موقع الدفاع بعد أن كانت هجومية بشراسة. لقد استعجلت السعودية هذه المرة في أمرها (معتمدة على التقديرات الإسرائيلية بشكل أساس) واكتشف أن هناك حدودا للمال النفطي وأن الإرادة الإنسانية أقوى من المال والسلاح.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/07/10