أنقذوا «محور السعودية» من قرقاش!
توفيق رباحي
في الأزمة التي افتعلتها السعودية والإمارات ضد قطر، والتي تقترب من دخول شهرها الثالث، برز رجل بذل جهداً كبيرا ليغطي على الآخرين: أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات.
خرج الرجل من العدم. استفاد من الأزمة إلى أبعد الحدود، مغتنما الفراغ في معسكره. وبفضلها صنع لنفسه مجداً أدخله التاريخ على طريقة وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف في 2003. فبينما كانت الدبلوماسية الإماراتية (ومعها الدبلوماسية السعودية) تتخبط في انعدام الثقة بالنفس والارتباك المفرط والعجز على الإقناع، كان نجم قرقاش، الشخصي، يتلألأ يوما بعد يوم. وكانت «انتصاراته» الدبلوماسية ـ الوهمية ـ تتوالى.
حَرصَ الرجل على البروز في العالمين العربي والغربي، بلغتين مختلفتين مستهدفًا جمهورين مختلفين في مقاربتهما للأزمة وفي صلتهما بها: جمهور عربي يشكك عادةً في التصريحات والمواقف الرسمية وقليل الثقة في السياسيين والمؤسسات السياسية.. منقسم إلى «مع» و»ضد»؛ وجمهور غربي لا يعرف الكثير عن المنطقة وأزماتها، ويؤثِّر فيه السياسيون والإعلاميون بسهولة بسبب ميله إلى تصديق ما يسمع.
هذا التصنيف جعل قرقاش يتخذ خطابين. الأول متشدد، بل غير مسؤول أحيانا، ويحمل التهديد والوعيد صراحةً وتلميحا. هذا الخطاب موجه للاستهلاك في المنطقة العربية التي يتلذذ سكانها بلغة التهديد والتركيع، سعى به قرقاش لإبراز قوته وضعف خصمه في آن، ومن ثمة دغدغة عواطف الجمهور الذي في صفه، وزعزعة ثقة الجمهور الذي في صف قطر. هذا الخطاب يصدر بالعربية فقط ليُسَّوق محليا، وأداته حسابه على تويتر ثم وسائل الإعلام الإماراتية والسعودية.
الخطاب الثاني أقل تشنّجًا، يراعي التوازنات والمصالح الغربية ويحسب حساب القوانين والمواثيق الدولية. هذا الخطاب موجه للجمهور وصنّاع القرار في الغرب، ويسوِّقه قرقاش في مقابلاته مع وسائل الإعلام الغربية الناطقة بغير العربية. بلغ هذا الخطاب ذروته في «المعهد الملكي للدراسات الدولية» (تشاتم هاوس) في لندن ـ الذي ذهب قرقاش يخطب فيه متأخراً أسبوعين مقارنة بوزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. يومئذ ظهر الدبلوماسي الإماراتي كالحمل الوديع بينما كان قبل ساعات من مغادرته إلى لندن يزأر باتجاه قطر زئير الأسود.
الخطاب الأول هو الحقيقي والصادق لأنه ينسجم مع الحدَّة والحقد اللذين جسَّدهما الحصار وقطْعُ الأرحام وخراب بيوت الناس ومصالحهم منذ فجر الخامس من حزيران (يونيو) الماضي.
ليس معروفا إن كان قرقاش صاحب قرار في أبوظبي أم مجرد واجهة دعائية. لكن بروزه يثير الفضول بسبب حدة ما ينطق به، وبسبب كونه ليس الأفضل والأكثر تأهيلا لإدارة الأزمة دبلوماسيا وعلى صعيد العلاقات العامة. والأهم أنه برز ليملأ الفراغ الذي تركه غياب وزير الخارجية عبد الله بن زايد، وكذلك ليعوض الفشل الناجم عن ارتباك الوزير السعودي عادل الجبير وعجزه عن إقناع حتى وزراء خارجية دول أفريقيا الأكثر فقرا بالانضمام إلى بلاده والإمارات في هذه الأزمة.
لكن قرقاش، الرجل الذي جعلته الأقدار «نجم الأزمة»، كثير الحضور من دون أن يسجل لبلاده نقاطا ومن دون أن يؤثر في سير الأزمة قيد أنملة. بالعكس، كان قرقاش أقرب إلى ظاهرة صوتية لا تضر أحداً لكنها لا تنفع حتى صاحبها.
منطق الحياة يقول إن الذي يتكلم أكثر يخطأ أكثر. قرقاش لم يراعِ هذه القاعدة الذهبية، فكان في تصريحاته شبه اليومية ينطق بالكلمة ونقيضها في الجملة الواحدة، وبالموقف ونقيضه في التصريح الواحد. ناهيك عن أن تحليل تصريحاته منذ اليوم الأول للأزمة سيكشف عن رجل متقلب ينطق باسم دبلوماسية بلا هدف، ويعطي الانطباع بأنه نسخة مطوَّرة للفريق ضاحي خلفان، مع لمسة غير مقنعة من الدبلوماسية.
بسبب هذا التقلب والتناقض، لا أحد يستطيع أن يجزم هل تنازلت السعودية والإمارات عن مطالبهما الـ13 أم لا. ولا أحد يجزم هل الحكومتان ترغبان في التفاوض مع قطر أم لا، وهل تفضلان حلا خليجيا أم عربيا أم دوليا، أم كله هذا مع بعض، أم لا شيء.
هناك عدة أسباب تفسّر بزوغ «نموذج قرقاش». بعضها آنية وأخرى بعيدة. الأسباب الآنية، وكما ورد آنفا، هي فشل بن زايد والجبير في إدارة الأزمة، وغياب ذكاء دبلوماسي ضروري في الأزمات. أما البعيدة، فأبرزها أن المنطقة كلها، لم يعد فيها «كبار» بمعنى عقلاء وحكماء.
قبل عقود غير بعيدة، كان القادة يتشاورون بعضهم مع بعض، وكان الاستماع فنًّا قائما بذاته. كان القادة يستحون بدرجات مختلفة، فيتمهلون ويتراجعون ولا يخذلون من يقصدهم.
اليوم، أمست المنطقة، بِدُولها وثرواتها، في يد هواة يديرونها على طريقة «البلاي ستيشن». المحور السعودي اليوم في ورطة، أحد أسبابها ووجوهها قرقاش. ولكي تعود الأمور إلى رشدها وتوازنها، هناك حاجة لاسترجاع عجلة القيادة من هذا الرجل. وإن كان لا يقود، فيجب تجريده من حقيبة الدعاية والحرب النفسية لوضع حد للضرر الذي ألحقه بمن كان يُفترض فيه خدمتهم.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/07/25