استيلاء أمريكا على النفط العربي وخلافتها للإمبراطورية البريطانية..
د. عبد الحي زلوم
مع أن بريطانيا قد ربحت الحرب العالمية الأولى بمساعدة الولايات المتحدة إلا أنها خرجت منهوكة القوى وبخزينة شبه خاوية وكان ذلك بداية نهاية إمبراطوريتها العالمية.
يفسّر الجيوبوليتيكي البريطاني بيتر جيه. تيلور الحربين العالميتين على أنهما “مبارزتان بين ألمانيا والولايات المتحدة على وراثة النظام الجيوبوليتيكي البريطاني . وتُفصِل وقائع الاجتماعات السرّية والتي عُقدت بين وزارة الخارجية الأميركية والمجلس الأميركي للعلاقات الخارجية بدءاً من العام 1939 ، تفصّل بوضوح دور الولايات المتحدة كوارثٍ لبريطانيا جاء في أحدى وثائقها : ” إن الإمبراطورية البريطانية على الحال الذي كانت عليه في الماضي لن تعاود الظهور أبداً .. وتوجّب على الولايات المتحدة أن تأخذ مكانها.”
كانت الفترة مابين الحربين العالميتين هي الفترة الانتقالية وكانت هذه الفترة أيضاً فترة الهيمنة الأمريكية على النفط العربي والشرق أوسطي بدءاً بحصة الربع في شركة نفط العراق إلى حصة النصف في شركة الكويت والى مئة في المئة من ملكية شركة نفط البحرين ثمّ نفط السعودية .
كان أعضاء كونسورتيوم آي. بي. سي. قد اتفقوا على السيطرة على نفط الشرق الأوسط ، فيما يعرف باتفاقية الخط الأحمر . لكن شركة ستاندارد أويل أوﭫ كاليفورينا(SOCAl) ، لم تكن جزءا من آي. بي. سي ، ويمكنها أن تقوم باستكشافاتها النفطية الخاصة بها . في عام 1929 أرسلت الشركة فرد أليكساندر ديـﭭيس إلى البحرين لتقييم احتمالات التنقيب هناك وفي الحسا، في شبه جزيرة العرب .
وعقدت الشركة صفقةً مع ابن سعود تمت بمساعدة من قبل دبلوماسي بريطاني سابق هو هاري سانت جون فيلبي ، والذي أصبح مستشاراً مقرّباً وموثوقاً للحاكم السعودي.
وبدت الصفقة – لابن سعود – جذّابة للغاية إذ كان بلده الناشىء في ذلك الوقت يعتبر من أفقر بلاد العالم ، وبدون أي بنيةٍ تحتيةٍ تذكر. وتضمنت الشروط النهائية التي توسط فيها فيلبي ، دفعة مقدمّة لابن سعود مقدارها 5000 جنيه إسترليني ذهباً مقابل استئجار الأرض اللازمة لأعمال الإستكشاف وإنتاج النفط ، 30% من كل أرباح أي اكتشافات ، فضلاً عن 100000 جنيه إسترليني تدفع ذهباً ومقدّماً عن تلك الأرباح . وسرعان ما استعمل الأميركيون فيلبي مستشارا لهم بأعطياتٍ مجزية.
وبعد أن عثرت شركة SOCAL على النفط في البحرين على عمق 2000 قدم تشكلت في جزيرة العرب شركة جديدة هي شركة ستاندارد أويل الكاليفورنية العربية ( والتي أصبحت فيما بعد شركة الزيت العربية الأمريكية – أرامكو ) ، وتمّ ضخ النفط إلى الناقلة الأميركية سكوفيلد في أيار 1938 كأول شحنة نفط من العربية السعودية إلى أميركا .
لم يبقى مكان في الشرق أوسط لم تتملك به الولايات المتحدة وشركاتها جزءاً من كعكة النفط سوى نفط إيران الذي كان مملوكاً بالكامل من بريطانيا ولكن إلى حين!
أوصى البرلمان الإيراني بتأميم شركة النفط المملوكة بالكامل من بريطانيا واختار “المجلس″ مصدق رئيساً للوزراء مع تخويله صلاحية تأميم الشركة الانجليزية في الحال ، ووقع الشاه القانون وحل محلّها شركة النفط الوطنية الإيرانية وأصبح نافذاً من 1 أيار 1951 . رأى الأميركيون في تأميم النفط الإيراني فرصة كانوا ينتظروها. فتم الإطاحة بمصدّق في انقلاب عرف باسم ” العملية آجاكس ” ، والتي نسقتها وكالة الاستخبارات الأميركية مع نظيرتها البريطانيةMI6
وتمّ تخفيض حصة بريطانيا في نفط إيران من 100% إلى 40% وتمّ زيادة حصص الشركات الأمريكية من صفر إلى 40% في كونسورتيوم جديد . بينما منحت شل 14% وسي. إف. بي. الفرنسية 6% . وكان القصد واضحاً وهو أن جميع شركات النفط العاملة في الخليج سوف تسيطر مجتمعة على إنتاج النفط من الخليج ، وفي أثناء فترة التأميم قوطع النفط الإيراني من قبل المستوردين ، وازدادت صادرات النفط من بلدانٍ خليجية أخرى من أجل إبقاء حجم النفط الذي يخرج من المنطقة ثابتاً ، وقُيّض لهذا التواطؤ بين شركات النفط الرئيسية ، بشأن اتخاذ القرار حول عرض النفط على المستوى العالمي ، أن يستمر ، دون معرفة البلدان المنتجة نفسها . وعندما أصدر عبد الكريم قاسم سنة 1960 قانونه بتأميم جميع مناطق الامتياز التي لم يجر فيها الاستكشاف بعد ، قاطع حاملو أسهم شركة بترول العراق النفط العراقي ، مما أدى إلى خسارة العراق لعوائده النفطية ، بينما عوّض مساهمو شركة اي بي سي الإنتاج وعوضوا عن خسارتهم لإنتاج العراق من امتيازات أخرى في الخليج ، واستُعمِل هذا التكتيك ثانيةً عندما قوطع الخام العراقي والكويتي بعد غزو العراق للكويت في حرب الخليج الأولى.
لعلّ أكثر تصديقاً لمقولة الجاسوس لورنس (بأن التاريخ هو سلسلة من الأكاذيب تمّ تصديقها ) هو ما يشاع ويكتب عن رئيس العراق الأسبق عبد الكريم قاسم.
جاء في كتاب “مذكرة جندي” للقائد الأردني الكبير صالح الشرع :
” في 3/2/1949 نشبت معركة محلية بين كتيبة عراقية في منطقة كفر قاسم (فلسطين )واليهود في رأس العين . كان قائد الكتيبة المقدم عبد الكريم قاسم وقد قابلته لمعرفة تفصيلات المعركة وعرفت أنه احتل موقع راس العين من اليهود ومرزعة مجاورة كانوا يتمركزون فيها. وامتنع عن الخروج من هناك رغم قيام الهدنة . وحينما جاء أمر الانسحاب من قائد لوائه الزعيم نجيب الربيعي أجاب عبد الكريم قاسم على برقيته قائلاً : أنا لا انسحب إلا إلى بغداد ، وبقي في مكانه إلى أن انسحب الجيش العراقي عائداً إلى بغداد … في9/3/1949 تقرر سحب الجيش العراقي بعد اتفاقيات رودس . تقرر أن تستلم الكتيبة الخامسة من الجيش الأردني مكان الأماكن المتقدمة من الجيش العراقي وقوامها فرقة ! … في 13/5/1949 أخذتُ قادة سرايا الكتيبة وأجرينا الكشف على المنطقة في باقة الغربية إلى كفر قاسم . وكان قائد الكتيبة العراقية عبد الكريم قاسم. سألني عن معلومات عن اتفاقية رودس وهل ستكون قرية كفر قاسم داخلة في الحيز اليهودي بموجب تلك الاتفاقية … فأجبته بالإيجاب … فنادى على أحد السرايا وطلب فئة الأشغال وكانت في كفر قاسم مقبرة صغيرة تضم اثنين وعشرين شهيداً سقطوا أثناء معركة راس العين وفي حوادث متفرقة أخرى ، فأمر بفتح قبورهم وإخراج جثثهم ونقلها إلى مقبرة الشهداء العراقيين الواقعة على مفرق طريق جنين – قباطياً ، وقال: أنا أسلمكم المواقع ولكني لا أترك جنودي الأموات لتدنس مقابرهم أقدام اليهود . كان أمام قيادة الكتيبة تمثال أقامته الكتيبة يسمونه تمثال النصر . أمر بهدمه وتم ذلك أيضاً ” في سلسلة المآسي التي واكبت حرب فلسطين الأولى أنه ” في اتفاقية رودس تم تسليم 212 ألف دونم تضم سبعة عشر قرية دون أي قتال مع اليهود.”
محمد حسنين هيكل كتب في مقالة له سمعتها من راديو القاهرة نقلاً عن مقالاته الشهيرة آنذاك بعنوان ” بصراحة” جاء فيها أنه خلال اجتماع مع الملك حسين في أوروبا أخبره الملك حسين أنه يعرف معرفة اليقين أن الانقلاب الذي أطاح بعبد الكريم قاسم كان انقلاباً أمريكياً تم توجيه الانقلابين من محطة المخابرات المركزية الأمريكية باللاسلكي بالكويت، وأن أسماء من أُستهدِفوا من الانقلاب – كانت تأتي أسماءهم مع عناوينهم عبر ذلك المركز باللاسلكي . مصادر عديدة قرأتها لاحقاً أكدت هذه المعلومة .
كان قراران لعبد الكريم قاسم تجاوزا الخطوط الحمر: إصداره لقانون النفط رقم (80) والذي أمم فيه وسحب امتياز كافة الأراضي العراقية غير المستغلة من شركات النفط الأجنبية ليتم استغلالها من شركة نفط وطنية عراقية. أما الخط الأحمر الثاني كان حكمه عبارة عن تآلف من تيارات مختلفة بما فيها تيارات يسارية .
جاء من بعده ليقيموا وحدة وحرية واشتراكية وما أقاموه معروف لديكم .
في عام 1928 وَقّع عمالقة النفط “اتفاقية الوضع الراهن” (as-is) أو اتفاقية آكناكاري Achnacarry والتي اتفقوا بموجبها على إنهاء المنافسة فيما بينهم ، ووقف فائض الإنتاج وتقسيم أسواق العالم على أساس ” الوضع الراهن” ، كما اتفقوا على أشياء أخرى . واستعملت هيئة التجارة الاتحادية الأمريكية صلاحيتها للحصول على وثائق الشركات ، وحسب الأصول توصلت إلى إنتاج أكثر التحليلات التاريخية تفصيلاً للعلاقات الدولية بين الشركات . ويُعتبر التقرير وعنوانه ” كارتل البترول الدولي ” معلماً ودراسةً مميزة . وأرادت كلّ من وكالة المخابرات المركزية ووزارتي دفاع وخارجية الولايات المتحدة الأميركية تطويق التقرير على أساس مصلحة الأمن القومي ، مدّعين بأن المعلومات التي يتضمنها يمكن لها ” أن تساعد وإلى حد كبير الدعاية السوﭭياتية ” ، كما أن الناس في البلدان المنتجة سيكونون غير سعداء بمضمونها ، وخاصة حقيقة أن معدّلات الإنتاج – والتي تشكل موردهم وعوائدهم الأساسية – إنما تقررها الشركات الأجنبية دون علمهم ، وبذا تُشكل انتهاكاً لسيادتهم . أما الرئيس ترومان فصنف الوثيقة على أنها سريّة للغاية ، بينما قررت إدارة العدل أن التقرير يشي بوجود كارتل نفطي يعود بتاريخه إلى عام 1928 ، مما يستدعي اتخاذ إجراء قانوني .
وتأسيساً على توصية رئاسة الأركان ومجلس الأمن القومي ، وقبل أيّام قليلة من انتهاء رئاسته في كانون ثاني 1953 ، طلب ترومان من إدارة العدل التخليّ عن تحقيقاتها الجنائية ضد الشركات المتآمرة .
أصاب عالم الجيولوجيا الأميركي إيفيرت دوغولير (Everett de Golyer) كبد الحقيقة من البداية، حيث كتب في أحد تقاريره بعد حملته الجيولوجية في شبه الجزيرة العربية: “إن مركز الجذب لعالم إنتاج النفط ينتقل من الخليج (خليج مكسيكو) في منطقة حوض الكاريبي إلى الشرق الأوسط إلى منطقة خليج الفرس، ومن المرجح أن يستمر هذا الانتقال حتى يثبت في شكل نهائي في تلك المنطقة.” لهذا أرادت الحكومة الأمريكية استملاك نفط الجزيرة العربية مباشرةً وليس عبر شركات النفط. وسيكون هذا موضوع المقال القادم .
مستشار ومؤلف وباحث
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/09/06