السيادة والاستلحاق.. والتحدي الجيوستراتيجي في العالم العربي
قاسم شعيب
يعطي الغرب لنفسه الحق في تحديد مسار الشعوب الأخرى التي يعتبرها مجالا حيويا لمصالحه وقيمه وثقافته. وقد وجد في بعض التيارات الليبرالية، منذ أكثر من نصف قرن، الضامن لتحقيق ذلك منذ أن اضطرته المقاومات العربية والوطنية إلى الانسحاب والتواري.
وبعد ما سمّي بـ”الثورات العربية”، بدأ هذا الغرب يلعب لعبته الجديدة لتدمير ما تبقى من انتماء وقيم وأخلاقيات وسيادة وطنية. وهنا انطلق في العمل من أجل تثبيت وكلائه فى السلطة وتعميق هيمنته من خلال تأجيج الصراعات الداخلية على أسس أيديولوجية وطائفية وإثنية كما يحدث في أكثر من بلد عربي.
وما نراه اليوم من صراعات سياسية، في دول عربية عديدة، بين تيارات ليبرالية ودينية وقومية.. ليس ناتجا عن اختلافات أيديولوجية وسياسية فحسب، بل إنه مفتعل، وهو ناتج بالأساس عن هذا الإصرار الغربي على الهيمنة والاستتباع. فعدم الاستقرار السياسي والممارسات الإرهابية المتنقلة تعني نهبا آمنا للثروات الوطنية وإيقافا لاقتصادات تلك البلدان وإلجاؤها إلى صناديق النقد الدولية التي يعرف الجميع من يملكها من أجل تأبيد التبعية.. فمثلا هناك في تونس 45 منصة بترولية بحرية و37 حقلا بتروليّا و55 شركة نفطية عدا المخزون الضخم من الغاز الطبيعي، تعمل كلها بعقود سرّية لا تجني منه البلاد إلا نسبة هزيلة. ثم يقال لنا إن تونس لا نفط فيها وتضطر إلى الاستدانة إلى أن وصلت نسبة الدين العام إلى حدود 52.7% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 وفق إحصائيات وزارة المالية..
يتبنى الغربُ الليبراليةَ الجديدة واقتصاد السوق. والدولة عندهم يجب أن تكون في خدمة رأس المال وليس العكس. وحتى لو تدخّلت الدولة في القطاع العام فيجب أن يكون في خدمة القطاع الخاص. ويرى الغرب أن ذلك يخدم مصالحه، أكثر، في الداخل وفي الخارج حيث يهيمن. لكن الحقيقة هي أن الدولة الليبرالية أصبحت مجرد خادم لمصالح الشركات الكبرى في الداخل كما في الخارج حيث يتم نهب ثروات الشعوب المقهورة كما هي حالة بلاد عربية كثيرة.
والصراع بين التيارات السياسية المختلفة في هذه البلاد التابعة يأخذ عدة اتجاهات؛ الأول ثقافي يتعلق بالمعتقدات والأفكار واللغة والقيم والعادات، والثاني اقتصادي يتعلق بالثروات والمصالح المادية، والثالث أيديولوجي يتعلق بدور الدولة، والرابع استراتيجي سياسي يتعلق بالسيادة الوطنية. و”لأن المال قوام الأعمال”، فإننا نرى كيف أن التيارات التي تنحاز إلى ثقافة شعبها وقيمه ومصالحه وسيادته واستقلاله هي الأخفض صوتا والأقل شعبية والأضعف تأثيرا. فضعف التمويل وقلة الأنصار، الذين سرق الإعلام عقولهم وغسل أدمغتهم ليتحولوا إلى مصفقين لجلاديهم، أدى إلى ذلك.
وفي الثقافة، يريد الغرب مزيدا من الاختراق في العالم العربي. وإذا كان الفرنسي يريد فرض ثقافته بشكل مباشر من خلال اللغة والفكر والفلسفة والأدب، فإن الأمريكي والانجلوسكسوني يتجنب المباشرة في كل شيء ويبحث عن سؤدده الثقافي بطرق أكثر دهاء، من خلال السينما والموسيقى والإعلام والقيم وحتى اللباس والأكل.. وفي هذه النقطة لا يريد الفرنسي أن يرى مناقضين له ثقافيا في مواقع السلطة. أما الأمريكي فهو لا يخشى على ثقافته التي تتقدم على كل الثقافات، ومستعد للتعامل مع كل من يؤمّن له مصالحه.
يؤمن الليبراليون في عالمنا العربي بهذه الخيارات الاقتصادية. وحتى اليسار، في معظمه، تخلى عن الاشتراكية اليابسة وأصبح يؤمن باقتصاد السوق. ورغم أن بعض “الإسلام السياسي” الذي وصل إلى السلطة يتحدث عن نموذج اقتصادي إسلامي يحقق العدالة الاجتماعية والرفاه العام إلا أنه لم يفعل شيئا في هذا الاتجاه واستمرت الخيارات الاقتصادية ذاتها في سياسة الدولة. وتلك مفارقة لها أسبابها الكثيرة.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصبح الغرب بأنظمته التشريعية وروحه المادية مرجعية لتيارات واسعة بعضها يحمل جذور يسارية أو دينية. وهم لا يقدمون تلك الأطروحات الغربية للناس بشكل علمي، بل إنهم يسعون إلى فرضها بشكل فوقي إما من خلال أنظمة استبدادية أو من خلال ضغوط البنوك الدولية والاتحاد الأوروبي. وعادة ما يبررون ذلك بالحاجة إلى التحديث وكارثية البديل السلفي، بينما الحقيقة هي أنهم يرفضون كل ما يمثّل جزءا من ثقافة الإنسان العربي المسلم.
ويبقى البعدُ الاستراتيجي الإطارَ العام الذي يحفظ ذلك كلّه في تصور الغرب الذي لا يرى إمكانية لاستمرار مصالحه وثقافته وأيديولوجيته في العالم العربي إلا من خلال تأبيد تبعيته له. وهذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلا بمنع وصول سياسيين وطنيين حقيقيين يؤمنون بالإنسان وقيمه في الحرية والعدالة والكرامة، لأنهم يعرفون أن في ذلك تحقيق للسيادة الوطنية التي تعني الاستقلال والقرار الحر بعيدا عن أية إملاءات أو ارتهانات.
تقضي إستراتيجية الغرب بمنع ظهور أية أنظمة وطنية حقيقية تنجح في امتلاك سيادتها. وبعد إسقاط الأنظمة القومية وتجربة حكم الإخوان الفاشلة في تونس ومصر، عاد الغرب إلى حلفائه التقليديين لأنهم يحملون فكره وقيمه ويخدمون مصالحه.
ويبقى السؤال: هل كُتب على العرب أن يستمروا تابعين يعيشون التخلّف في كل شيء بينما يتقدّم غيرهم؟ ألم يحن الوقت لتفهم هذه الشعوب أنها تقاد سياسيا ودينيا وثقافيا بواسطة أتعس أفرادها خدمة لمن قلّدهم مهمة تأمين مصالحه؟ ألم يصبح ملائما أن تَبْنِيَ على الشيء مقتضاه؟
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/09/12