نظام للفصل العنصري في مدينة الخليل
د. جيمس زغبي
أعلنت إسرائيل، الأسبوع الماضي، أن قلب مدينة الخليل، من الآن فصاعداً، ستكون له بلدية مستقلة، تحكمها الإدارة المدنية الإسرائيلية مباشرة؛ إذ يعيش حوالي 700 مستوطن إسرائيلي متطرّف، في عدد قليل من المجمعات وسط المدينة تحت حماية الجيش الإسرائيلي. وفي حين إن هذا الوجود الاستفزازي مستمر منذ أكثر من عقدين، فإن قرار تقسيم الخليل رسميا إلى مدينتين كان مثيراً للقلق العميق، وإن كان متوقّعاً تماما.
قبل 22 عاما، كتبت ملاحظاتي عما يحدث في الخليل، في محاولة لنقل كيف تؤثر السياسات الإسرائيلية تأثيرا قاسيا في الحياة اليومية. في ذلك الوقت، كنت واحدا من قادة مشروع أطلقه نائب الرئيس آل غور، لدعم «عملية السلام»، من خلال تنمية الاقتصاد الفلسطيني.
كان ذلك عام 1995، ولما كان بريق اتفاقات أوسلو قوياً، لكنه بدأ يخفت.
كتبت آنذاك: زرت الخليل الأسبوع الماضي (5 يونيو 1995)، وانتابني قلق عميق لما رأيت. فالحياة اليومية بعيدة كل البعد عن عملية السلام. ويضطر الفلسطينيون في تلك المدينة إلى تحمّل الضغوط الاقتصادية المنهكة والسيطرة العسكرية القمعية القاسية.
وبعد أكثر من عام على المذبحة التي وقعت في الحرم الإبراهيمي، لا يزال ما يقرب من 300 ألف نسمة من سكان الخليل يعانون من عواقب تلك الجريمة المروعة. ويحتفل المستوطنون بباروخ غولدشتاين (الإرهابي اليهودي الذي ارتكب المجزرة) كبطل (أصبح قبره في مستوطنة كريات أربع القريبة مزارا)، ويتولى الجيش الإسرائيلي توفير الأمن للمستوطنين المتطرفين الذين يعيشون في قلب مدينة الخليل والمستوطنات الكبيرة التي تحيط بالمدينة.
ومن أجل حماية 300 مستوطن يهودي استولوا بشكل غير قانوني على ثلاثة مبان كبيرة في أجزاء مختلفة من وسط المدينة، نشر الجيش الإسرائيلي أكثر من ألف جندي مدججين بالسلاح. وأغلقوا الشوارع الرئيسية، بما في ذلك أجزاء كبيرة من سوق الخليل المركزي. ونتيجة لذلك، لا يستطيع المواطنون العرب قيادة سياراتهم عبر المدينة. وبدلا من ذلك، يتعين عليهم الالتفاف حول محيط المدينة.
وتتيح البوابات المعدنية التي شُيّدت حديثا، لعشر وحدات عسكرية إسرائيلية القدرة على إغلاق مركز المدينة بأكمله، متى شاءت. المشهد في هذه المنطقة التي كانت مزدحمة وصاخبة ذات يوم، أصبح الآن، مخيفا وكئيبا. كان الآلاف من الفلسطينيين يتمشون ويتسوّقون.. والآن، أصبحت الشوارع خالية، وكثير من المحال التجارية المغلقة (بعضها لا يزال مفتوحا، ولكن لا أحد يأتي للشراء). وتمكنك رؤية عدد قليل من العرب، في حين تجد المستوطنين اليهود وأطفالهم الذين يلعبون في الشوارع ويسبّبون المضايقات للعرب الذين ما زالوا يعملون وسط مدينتهم، والجنود الإسرائيليين.
وتجد الكتابات العبرية على جدران المحال التجارية العربية ونجمة داود، والشعارات العبرية مثل «الموت للعرب» و«غولدشتاين هو بطلنا».
إن التوتر الذي تفرضه هذه البيئة على مدينة الخليل، التي يقطنها أكثر من 120 ألف شخص، واضح. كما أنه يعكر صفو حياة أكثر من 150 ألف نسمة يعيشون في البلدات والقرى المجاورة.
ولحماية المستوطنين المسافرين من مستوطنة كريات اربع القريبة، أقام الجيش الإسرائيلي كثيراً من نقاط التفتيش وأغلق الطرق الجانبية. ولم يعد بإمكان سكان قريتين فلسطينيتين، يبلغ عدد سكانهما 30 ألف نسمة، الوصول إلى الخليل للتسوق أو زيارة الأقارب والأصدقاء.
وربما كانت نقاط التفتيش أكثر إثارة للقلق. فعلى طريق مهجور تقريبا، ينتظر صف من السيارات العربية عند نقطة تفتيش في وقت يجلس الجنود الإسرائيليون الشباب تحت مظلة متجاهلين معاناتهم، ويسمحون بمرور السيارات وفق أهوائهم.
العنف هو جزء من الحياة اليومية في الخليل. وفي حين إن إطلاق النار على الفلسطينيين أمر متكرر، أفادت منظمة إسرائيلية لحقوق الإنسان مؤخرا بأن الجيش الإسرائيلي قد غيّر التكتيكات، على ما يبدو، ويستخدم الآن الضرب العشوائي. ويوثق التقرير المئات من حالات الضرب شهريا. وتتراوح الأسباب التي قدمها الجنود للضرب بين معاقبة الفلسطينيين على الوقوف الخاطئ للسيارات، وبين القيام بذلك لمجرد «اللهو»!
عندما وصلت إلى المدينة لأول مرة، حاولت دخول المبنى الذي يضم مكاتب جامعة الخليل بناء على موعد مع رئيس الجامعة. أوقفني ثلاثة جنود إسرائيليين بعد أن صرخوا علي من فوق سطح المبنى: «ابتعد! لماذا أنت هنا؟». وعندما أوضحت لهم سبب زيارتي، أشار جندي شاب يمسك ببندقيته، إلى أن أذهب بعيدا. وصرخ في وجهي: «لا تنظر إلي هكذا.. فقط اذهب بعيدا». ربما كنت أحمق، لكني قررت تجاهله ومواصلة طريقي إلى المبنى.
وهذا العداء وذاك القمع يشكلان جزءا مأساويا من الحياة اليومية للسكان الفلسطينيين في المدينة ومنطقة الخليل.
لكن الصورة في مستوطنة كريات أربع القريبة، مختلفة تماما. فهي مدينة هادئة على نحو غريب، ولا يظهر عليها أي دليل على كونها مقرا لقيادة المستوطنين الأكثر تعصّبا. حتى النصب التذكاري لباروخ غولدشتاين، الذي عاش في المستوطنة، يبدو للغرباء، أكثر براءة مما هو في الواقع.
مستوطنون يقومون بأعمال شغب أمام محال عربية فارغة ورجال شرطة يضربون الفلسطينيين ويقومون بإغلاق المدينة وتدمير اقتصادها والقيام بمضايقات يومية.. هذه هي الحياة اليومية في الخليل خلال هذه الفترة من «السلام».
كانت هذه صورة للحياة في الخليل قبل 22 عاماً. ومنذ ذلك الحين، أصبح الوضع أكثر قمعا. وقد استولى الجيش الإسرائيلي على الحرم الإبراهيمي، وقسمه، بحيث أعطى الجزء الأكبر للمستوطنين، في حين يجب على الفلسطينيين أن يمروا بإجراءات أمنية مهينة للدخول إليه. وقد تم الاستيلاء على عدد قليل من المباني في قلب المدينة من قبل المستوطنين تحت حماية مسلحة من قبل الجيش الإسرائيلي.
وبموجب بروتوكول الخليل لعام 1997، اضطرت السلطة الفلسطينية إلى التخلي عن السيطرة على 20 في المئة من المدينة لمصلحة الجيش الإسرائيلي، وهي منطقة تضم بضع مئات من المستوطنين وأكثر من 30 ألف فلسطيني. والقرار الذي اتُّخذ مؤخرا بإنشاء بلدية مستقلة للمستوطنين ضمن هذه المنطقة، يضفي الطابع الرسمي على هذا التقسيم. كما يتضمن البروتوكول، بنداً يسمح للمستوطنين بالاستيلاء على ممتلكات شاغرة يملكها فلسطينيون، غادروا هربا من المضايقات التي تعرضوا لها على يد المستوطنين والجنود. ويبدو أن قصد إسرائيل هو ربط هذا الوتد الذي دقوه في قلب الخليل، مع مستوطنة كريات أربع، وهو مؤشر واضح على أن الإسرائيليين لا يعتزمون التخلي عن نظام الفصل العنصري الذي أنشأوه في مدينة الخليل.
جريدة القبس الكويتية
أضيف بتاريخ :2017/10/03