وأخيرًا سمحت الرياض للنساء بالقيادة.. لا تظنوا ذلك إصلاحا
ستيفان لاكروا
في السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول، منحت المملكة العربية السعودية مواطنيها من النساء حق قيادة السيارات، متراجعة بذلك عن الحظر الذي فرضته لعقود. وكواحد من عدد من التغييرات الأخيرة التي هزت الأركان المحافظة للملكة، يأتي هذا الإصلاح الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة على إثر اعتقال العشرات من الشخصيات المرموقة.
فعلى الرغم من أنه معهود عن المملكة العربية السعودية أنها تسجن الأصوات السياسية المستقلة، إلا أن الاعتقالات الأخيرة كانت غير معتادة ومن عدة وجوه.
يمر النظام السعودي حالياً بتغيرات سياسية عميقة، واستيعاب قراراته الأخيرة يتطلب نظرة متفحصة في سياساته المتجزئة وفي برنامج النظام المتجه نحو اللبرلة.
لماذا تعتبر هذه الاعتقالات غير عادية؟
بينما قالت بعض وسائل الإعلام إن هذه الاعتقالات تستهدف الإسلاميين، إلا أن الأشخاص الذين اعتقلوا يمثلون طيفاً واسعاً من الانتماءات الأيديولوجية. والإسلاميون أنفسهم يشتملون على المحافظين المتشددين وعلى التقدميين بما بينهم من تفاوت في الآراء ووجهات النظر. لم يتوقف المحافظون من أمثال محمد الهدبان عن الدعوة بلا هوادة إلى المزيد من فرض القيم الاجتماعية المحافظة ورفض الديمقراطية. أما التقدميون من أمثال سلمان العودة فقد صدعوا بدعم انتفاضات الربيع العربي التي انطلقت في عام 2011، ودعوا إلى إقامة ملكية دستورية بل وحتى عارضوا قمع الدولة للمثليين.
وتشتمل قائمة المعتقلين على العديد من المفكرين الإصلاحيين الشباب الذين ينشطون ضمن الحركة السعودية المطالبة بالديمقراطية منذ عام 2011، ومن هؤلاء عبد الله المالكي، الذي ألف كتاباً في عام 2012 حول الشرعية الدينية للسيادة الشعبية. واعتقل أيضاً مصطفى الحسن، مؤسس منتدى الشباب الخليجي الذي يشجع تنمية مؤسسات المجتمع المدني. ومن ضمن المعتقلين الآخرين أيضاً عصام الزامل، رجل الأعمال الشاب الذي كان يستخدم حسابه على تويتر، والذي يتابعه فيه الملايين، ليقدم نقداً علمياً لأداء الاقتصاد السعودي، وحسن المالكي، أحد أشهر منتقدي الوهابية والذي طالما كان هدفاً للمحافظين.
في الماضي كانت الشرطة تعمد إلى استدعاء الشخصيات العامة المطلوبة للسلطات بهدوء وبعيداً عن الأنظار، أما هذه المرة فقد ألقي القبض على معظم المعتقلين داخل بيوتهم وأمام عائلاتهم. وبحسب المقابلات التي أجريتها فقد تعرض العشرات من الشيوخ والمثقفين والنشطاء الآخرين إلى الاستجواب والتهديد. ويقال إن هذه الاعتقالات هذه المرة لم تقم بها وزارة الداخلية وإنما جهاز أمني جديد تأسس في شهر يوليو/ تموز، يعرف باسم "رئاسة أمن الدولة" ويخضع مباشرة لسلطة الديوان الملكي.
ما الذي يفسر هذه التغييرات في السياسة؟ وصف بيان رسمي صدر في الثاني عشر من سبتمبر/ أيلول الاعتقالات بأنها جزء من حملة أمنية ضد "خلايا استخباراتية تعمل لصالح أطراف أجنبية". وهذا يعني قطر. وبالفعل، فقد تجنب معظم المعتقلين الإعلان عن موقف تجاه الأزمة الحالية. وبعد أربعة أشهر من الحصار، ونظراً لعدم تحقيق أي تقدم، يبدو أن السلطات السعودية قررت تحويل الأنظار من خلال إيجاد كبش فداء على شكل ما يفترض أنه "عملاء قطريون" محليون.
غير أن وراء هذه الاعتقالات أسباباً أعمق تحتاج لسبر غورها بتحليل دقيق.
كيف دعمت الحكومة السعودية الإسلاميين ثم انقلبت عليهم؟
احتفظ النظام السعودي حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي بعلاقات وثيقة مع طيف من الجماعات الإسلامية. وكانت البداية في الستينيات حينما آوت المملكة الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين تعرضوا للتنكيل على أيدي الأنظمة العربية القومية. وفي الثمانينيات، حظي إسلاميون أكثر تطرفاً بحماية المملكة نظراً لمشاركتهم في القتال في أفغانستان.
لقد أثر أولئك النشطاء الأجانب في المجتمع السعودي، ما أثمر عن نشوء حركة إسلامية محلية قوية كان يطلق عليها اسم "الصحوة". وفي التسعينيات، بعد أن غزا صدام حسين دولة الكويت، تصدر نشطاء الصحوة لحراك معارض للدعوة التي وجهتها العائلة الحاكمة إلى القوات الأمريكية لتتواجد في الأراضي السعودية. ونجم عن المعارضة سجن عدد من الشخصيات البارزة في الحراك، بما ذلك سلمان العودة، الأمر الذي وضع بذور الريبة وانعدام الثقة بين النظام والإسلاميين، المحليين والأجانب منهم على حد سواء.
وفي عام 2002، ندد وزير الداخلية حينذاك، الأمير نايف، بجماعة الإخوان المسلمين واصفاً إياها بأنها "مصدر جميع الشرور داخل المملكة العربية السعودية". وظل ذلك الارتياب ينمو باستمرار، وخاصة مع مجيء الربيع العربي، والذي أفضى إلى فوز الإسلاميين في الانتخابات الديمقراطية في كل من تونس ومصر، فبادر الإسلاميون السعوديون الذين ألهمتهم الانتفاضات العربية بتوزيع عريضة تطالب بالإصلاح داخل المملكة، بما في ذلك إعلان فبراير/ شباط 2011 "نحو دولة الحقوق والمؤسسات" والتي وقع عليها ما يقرب من تسعة آلاف شخص.
وما لبث الحراك المناهض للإسلاميين أن اكتسب زخماً في عام 2013، حيث دعم النظام السعودي الانقلاب الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي، العضو في جماعة الإخوان المسلمين، ثم صنف الإخوان "وجميع المنظمات التي تشبهها" منظمات إرهابية. وفي مارس 2014، شنت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها حملتهم الأولى ضد قطر وذلك بشكل رئيسي بسبب دعم الدوحة للإسلاميين، ومنذ ذلك الوقت شعر إسلاميو السعودية بالخطر يقترب منهم. إلا أن جولات التوقيف الأولى كانت تقتصر على نشطاء حقوق الإنسان والإسلاميين الأقل شهرة.
ولى عهد الموازنات الدقيقة للتشظي السياسي
إلى أن توفي الملك عبد الله في عام 2015، كان النظام يتعامل مع الصدامات السياسية من خلال الاحتواء. وكان القمع والاضطهاد تحت هذه المنظومة "السلطوية الأبوية" هو الملاذ الأخير. كانت الدولة السعودية في حالة من التشظي، وكانت تقيم توازناً في السلطة بين العائلة الحاكمة والمؤسسة الدينية، وكذلك فيما بين أبرز أفراد العائلة الملكية الحاكمة ذاتها، كل بما أوتي من إقطاعية وبما جمع من حاشيته. كان حكم المملكة العربية السعودية بمثابة لعبة دائمة من الضوابط والتوازنات، ما سمح بقدر من التعددية السياسية، وإن كانت مقيدة ومحدودة. وقد تميز العقد الأول من القرن الجديد بحوار حي بين الإسلاميين والليبراليين. ظلت صناعة القرار حقاً حصرياً للعائلة الملكية الحاكمة، إلا أن هذه الحوارات كانت غاية في الأهمية.
يجري الآن تفكيك هذه المنظومة، وخلال العامين الماضيين ارتقى ولي العهد محمد بن سلمان بشكل سريع جداً، وسيطر على معظم مفاصل الدولة واستحوذ على الصلاحيات فيها. فقد تمكن الأمير بدعم من والده الملك سلمان من تهميش المنافسين له داخل العائلة الملكية الحاكمة، وبشكل خاص ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف، والذي يقال إنه يخضع الآن للإقامة الجبرية. وعمل محمد بن سلمان في نفس الوقت على إضعاف السلطة المستقلة للمؤسسة الدينية، وكان آخر إجراءاته في هذا السياق سحب صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف في إلقاء القبض على المخالفين والمتجاوزين أخلاقياً.
وبدلاً من الأفقية والسعي وراء الإجماع الذي كان يميز النظام السعودي في السابق، يوجد اليوم خط عمودي من السلطة والنفوذ ينتهي عند محمد بن سلمان. ولقد وجدت من خلال مقابلاتي أن أنصار محمد بن سلمان يبررون هذه النقلة بالحاجة إلى آلية فعالة لصناعة القرار في زمن الأزمات بدلاً من القصور الذاتي السياسي الذي كان النظام السعودي يتسم به ذات مرة.
ويأتي في المركز من هذه السردية مشروع ولي العهد لتحديث المملكة العربية السعودية المتضمن في خطته المعروفة باسم "رؤية 2030"، وهي خطة طموحة للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية جرى الإعلان عنها في عام 2016. يتكون الجزء الأهم من تلك الخطة من "لبرلة" المجتمع السعودي من فوق. وبالنسبة لمملكة ينتابها القلق على سمعتها وصورتها في الخارج، لم يكن من المصادفة أن يأتي الإعلان عن السماح للنساء بقيادة السيارات بعد موجة ضخمة من الاعتقالات.
محلياً، تم تبرير القرار بأنه ضرورة اقتصادية، دون أدنى ذكر لمئات النشطاء من النساء اللواتي طالبن على مدى ثلاثة عقود بمنحهن حق قيادة السيارات، حيث أن الإشارة إلى ذلك كان يمكن أن يفهم منها أن الحكومة تستجيب للضغوط الاجتماعية وبذلك تحفز على مزيد من المعارضة والشقاق.
على الرغم من شعبية الإصلاحات التحديثية إلا أنها لا تمت بكبير صلة إلى تمكين المجتمع المدني أو التحول نحو الحكم الديمقراطي. وأفضل طريقة لفهم هذه الإجراءات هو اعتبارها محاولة يقصد منها تحويل القيادة السعودية إلى "مستبد تحديثي" آخر في المنطقة. والعقد الاجتماعي الجديد المعروض على الناس غاية في البساطة: ترضون بحريات سياسية أقل مقابل وعد بتقدم اجتماعي ونتائج اقتصادية من خلال عملية تقودها الدولة. بمعنى آخر، لم تعد المملكة العربية السعودية نموذجاً متفرداً كما كانت من قبل.
صحيفة عربي 21 نقلا عن "واشنطن بوست"
أضيف بتاريخ :2017/10/08