اليونسكو: أمريكا وحلفاؤها يسحقون العمل المشترك
د. سعيد الشهابي
القرار الأمريكي بالانسحاب من منظمة اليونسكو يعيد الضوء مجددا للعمل الدولي المشترك، وما إذا كانت الإنسانية حقا قد تطورت نحو الأفضل وتجاوزت منطق الحرب الذي يتأسس على الرغبة في الهيمنة والاستحواذ. الذريعة المباشرة لهذا الانسحاب إصدار المنظمة قرارين خاصين بفلسطين وهما فلسطين المحتلة، والمؤسسات الثقافية والتعليمية، اللذين رحب الفلسطينيون بهما. وقد أعربت إيرينا بوكوفا، مدير عام اليونسكو، عن أسفها لقرار الولايات المتحدة الانسحاب من المنظمة. وقالت بوكوفا إن انسحاب الولايات المتحدة «خسارة لليونسكو وخسارة لأسرة الأمم المتحدة وخسارة للتعددية».
فالمبدأ الأساسي للعمل المشترك استعداد المشاركين فيه لقبول قراراته وأن لم تتفق مع مصالحهم. إما إذا كان الهدف من المشاركة في المنظمات الدولية فرض الهيمنة عليها أو إجبارها على مسايرة سياساتها دائما فان ذلك الهدف يتناقض مع العمل الجماعي الذي يتطلب مرونة من الأطراف المشاركة.
الموقف الأمريكي يعيد إلى الذاكرة قرار واشنطن بالانسحاب من المنظمة في 1984 بدعاوى من بينها تسييس المنظمة وافتقادها إدارة حكيمة. ويؤكد العارفون أن القرار كان بسبب أحساس الأمريكيين بعدم سيطرتهم عليها. يومها قالت السيدة جين كيركباتريك، السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة آنذاك:
«الدول التي تتمتع بالتصويت لا تدفع، والدول التي لا تدفع تتمتع بالتصويت». واستمرت المقاطعة حتى العام 2002 عندما اتخذ الرئيس جورج بوش (الابن) قرار العودة. تزامن ذلك مع الذكرى الأولى لحوادث 11 سبتمبر الإرهابية، وذلك رغبة منه في جذب العالم لمشروعه الذي أطلق عليه «الحرب ضد الإرهاب». وكادت واشنطن تنسحب مرة أخرى في 2011 عندما أوقفت الدعم المالي لليونيسكو بعد إقرار المنظمة العضوية الكاملة لدولة فلسطين. القرار الأمريكي الأخير بالانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة جاء بعد صدور قرارين عنها حول وقف سياسات تهويد مدينة القدس وتغيير معالمها التاريخية. واعتبار التراث التاريخي بمدينة الخليل معرضا للتدمير على أيدي الإسرائيليين. وفي تموز/يوليو الماضي أعلنت المنظمة إدراج المدينة القديمة والمسجد الإبراهيمي في الخليل الفلسطينية بالضفة الغربية المحتلة ضمن قائمة مواقع التراث العالمي برغم الاعتراض على القرار من السلطات الإسرائيلية.
وكان من الطبيعي أن يرحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقرار الولايات المتحدة الانسحاب من اليونسكو. وقال: «هذا القرار شجاع وأخلاقي لأن منظمة اليونسكو أصبحت مسرح عبث، وبدلا من الحفاظ على التاريخ قامت بتشويهه». وأمر نتنياهو وزارة الخارجية الإسرائيلية بتحضير انسحاب «إسرائيل» من المنظمة بالتوازي مع الولايات المتحدة. هذه القرارات تشير لأمور عديدة: أولها عجز أمريكا عن التعايش السلمي مع دول العالم، وذلك شعور ناجم عن الاستعلاء والتكبر والاعتقاد بالقوة المفرطة. ثانيا: تعمق الوعي الدولي بضرورة الحفاظ على الهوية الثقافية للدول، الأمر الذي قد يؤدي للتصدي للهيمنة الأمريكية على هذه البلدان. ثالثا: حالة الاضطراب الداخلي في أروقة المؤسسة الحاكمة في أمريكا، وقدرة قوى الضغط الصهيونية على التأثير على قرارات واشنطن. ومنذ أن وصل ترامب إلى الرئاسة حدثت تصدعات على الصعيد الدولي بسبب سياساته المتأرجحة وتوجهاته التي تكرس العزلة الأمريكية على الصعيد الدولي.
اليونسكو منظمة دولية تمارس دورا ايجابيا لترويج التبادل الثقافي وتوسيع التعاون الدولي في هذا المجال. والصراع المحتدم حول إدارتها لا يقتصر على أمريكا وحلفائها. بل يمتد حتى للدول العربية. ففي الأسبوع الماضي تم التصويت على المرشحين لرئاسة اليونسكو، وبدت ساحة المؤسسة الثقافية في باريس مسرحا لحرب سرية ومعلنة خصوصا بين المرشحين العربيين: القطري حمد الكواري والمصرية مشيرة خطاب. وهنا لوحظ ليس غياب التنسيق العربي فحسب بل التنافس الذي تجاوز حدود الأخلاق في بعض الحالات. ونقلت وكالة أنباء رويترز عن أحد السفراء باليونيسكو قوله: «النزاع محتدم منذ عدة أشهر لكن ما نراه مع المرشحين العرب هو أنهم منقسمون بشدة. بعض المشاحنات شرسة للغاية».
ووجهت السهام المصرية للمرشح القطري بقوة خصوصا بعد أن أصبح أقوى المرشحين في الجولات التي سبقت الجولة الأخيرة. هذا النزاع أدى في النهاية لخسارة المرشح القطري وفوز المرشحة الفرنسية أودري أزولاي. وقد بدأ التحالف الرباعي و»إسرائيل» حملة شرسة لحرمان قطر من استضافة مونديال 2022، وهو أمر يعكس حالة التردي في العلاقات السياسية من جهة والأخلاقية من جهة أخرى في العالم العربي.
في غياب العمل الحقيقي لاحتواء الظواهر السلبية على الصعيد الدولي كالإرهاب وفقدان الأمن ومجاعات الشعوب وانتشار الأوبئة، يتجه بعض الزعماء لإعادة تشكيل التحالفات من أجل التلاعب السياسي وقمع الحريات العامة وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح. وها هو العالم يقترب يوميا من أجواء الحرب والتناحر وفقدان الثقة وتدمير المؤسسات التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية بهدف تقريب الشعوب وتقليص بؤر التوتر وترويج القيم الإنسانية. وبدلا من أن تلعب أمريكا دورا ايجابيا في هذه المجالات أصبحت تلعب أدوارا سلبية وتعوق العمل الدولي وتؤسس لثقافة الانتقام والمواجهة والتمرد بدلا من الحوار والتقارب والتبادل الثقافي.
واعتبر البعض أن سياسات ترامب تضر كثيرا بمصالح «العالم الحر» الذي سعى منذ سبعة عقود لتشكيل توافقات دولية حول القضايا التي تمس امن العالم وسلامة أهله.
والواضح أن الولايات المتحدة مصرة على التراجع عن العمل المشترك أما استسلاما لذوق الرئيس الذي لم يخض غمار السياسة قبل انتخابه أو نتيجة الضغوط الإسرائيلية التي أصبحت توجه سياسات البيت الأبيض خصوصا إزاء قضايا الشرق الأوسط. فلم تعد مصلحة أمريكا هي المعيار الذي يستخدمه ترامب بل أنه يحدد سياساته وفقا للمصلحة الإسرائيلية.
وبرغم الدعاوى بتطور آليات العمل الدولي المشترك فان هذه الآليات تواجه تحديات كبرى من أهمها هيمنة حالة الفساد على العلاقات بين الدول. فبإمكان دولة كالسعودية شراء مواقف الدول الأخرى في مقابل مساعدات مالية تقدمها الرياض. وهذا ما حدث العام الماضي حين اضطر الأمين العام للأمم المتحدة شطب اسم السعودية من قائمة الدول التي تنتهك حقوق الطفل. وسعت الرياض لفرض ذلك الأمر على الدورة الأخيرة لمجلس حقوق الإنسان، عندما حاولت منع صدور قرار دولي بتشكيل لجنة مستقلة لتقصي الحقائق في جرائم الحرب التي ترتكب في اليمن يوميا. وبسبب الموقف الأنكلو ـ أمريكي المتأرجح تم تمرير قرار مخفف جدا يقضي بان تجري مجموعة من الخبراء «البارزين» الدوليين والإقليميين «دراسة شاملة» لكل الانتهاكات والتجاوزات لقانون حقوق الإنسان الدولي أو مجالات أخرى مناسبة وقابلة للتطبيق من القانون الدولي» في اليمن. وليس معلوما بعد كيف ستؤدي هذه اللجنة عملها مع وجود لجنة شكلها التحالف الذي تقوده السعودية ولم تحقق شيئا في مجال تحديد مسؤولية القتل اليومي للمدنيين. وقبل أسبوعين فحسب طالبت الهيئة المستقلة لمراقبة الأمم المتحدة بسحب عضوية السعودية من مجلس حقوق الإنسان بسبب ارتكابها عشرات الجرائم باليمن وخرقها قوانين الحروب والمعاهدات الدولية، وكذلك سجلها «السيئ» في حقوق الإنسان تجاه مواطنيها. وظهرت الفضيحة عندما كشفت الهيئة ـ التي تتخذ من جنيف مقرا لها ـ عن تلقيها نسخة تهدد فيها السعودية عددا من الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان بعقوبات سياسية واقتصادية في حال تمرير مشروع لقرار الذي قدمته كندا وهولندا بإنشاء لجنة التحقيق المستقلة في جرائم الحرب في اليمن. وطالبت الرسالة المسربة بضرورة ألا تصوت الدول على هذا المشروع باعتباره يضر بالسعودية ولا يرتكز على حقائق موثقة. هذه الرسالة تعتبر خرقا واضحا لبروتوكولات الأمم المتحدة ذات العلاقة وخاصة المعمول بها في مجلس حقوق الإنسان التي تمنع الدول من القيام بمثل هذه الممارسات.
في ظل هذه الحقائق يمكن القول أن العالم يحتاج إلى مؤسسات دولية تعمل لتعميق روح التواصل والتحاور والتفاعل الاجتماعي والسياسي، ولكن بشرط أن لا تخضع لإملاءات الدول الكبرى كالولايات المتحدة وشروطها. كما أن من الضروري منح هذه المؤسسات صلاحيات تنفيذية تساعدها على تمرير القرارات. ويتطلب الأمر أيضا التصدي لهيمنة أية دولة على القرار الدولي، أو استخدام المال للتأثير على قرارات الدول ومواقفها. وأخيرا فقد أصبح على دول الاتحاد الأوروبي مسؤولية كبرى تتمثل بالضغط على الولايات المتحدة ورئيسها لاحترام القرارات الدولية والتخلي عن عقلية الانسحاب منها، فذلك ضرورة لاحتواء الأزمات المتواصلة ومنع حدوثها.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/10/16