ماضٍ لا يموت
عامر محسن
لم يفقد اللبنانيون إيمانهم ببلدهم وبوطنيتهم بسبب الحرب الأهلية والقتل الطائفي وسنوات التّقسيم، بل إنّ الدّولة اللبنانية ــ وهنا المفارقة ــ هي من نفّذ هذه المهمة بعد نهاية الحرب، وخلال فترة «السّلم» التي جرّدت الشّعب من كلّ الأوهام التي راكمها طوال سنوات وهو في انتظار «الوطن». بدايةً وقبل كلّ شيء، كان على اللبنانيين الذين خسروا أحبّةً وتعرّضوا إلى الظّلم والمجازر احتمال إهانة قاسية، حين أُبلغوا بأنّ كل ما جرى لهم خلال الحرب، من القتل السّادي إلى الإبادة الجّماعيّة إلى الخيانة، سيذهب كأنّه لم يكن. لن تُقام حتّى محاكمات صوريّة للمرتكبين «الكبار» والمعروفين، على طريقة نورمبرغ.
قيل لهم إنّ هذا التّنازل عن العدالة، لهم ولمن قضي، هو أمرٌ «ضروري» وعقلانيّ ولا مفرّ منه من أجل إنهاء الحرب. الإهانة الثانية كانت في أنّ من ساق هذا المنطق وفرض علينا معادلة أنّ ثمن حياتنا يساوي صفراً كان، تحديداً، الفريق القياديّ الذي أشرف على جرائم الحرب الأهلية ويرفض إيقافها إلّا بهذه الشّروط. الإهانة الثالثة والأكبر هي أنّ هؤلاء المجرمين لم ينزووا بعد نهاية الصّراع ويخفوا وجوههم خجلاً من غضب الضّحايا، بل تابعوا حكم البلاد بشروطٍ جديدةٍ، وبوقاحةٍ لا توصف، حتّى أصبحوا يستذكرون أخبار مجازرهم في الوثائقيات وبرامج التّاريخ، ويقدّمون لنا أولادهم حتّى نتعرّف إلى الجّيل الجديد من الحاكمين.
هذا النّوع من الإذلال لا ينتج شعباً حقيقيّاً، يشعر بقيمة ذاتيّة وأمانٍ ومقدارٍ من الفخر والثّقة. ثمّ اكتملت الخطّة باستحضار مشروعٍ اقتصاديٍّ يمزج التخصيص بالفساد، فتخسر الدولة مهمّتها الاجتماعية ويخسر المواطن ــ باعتباره «لبنانياً» ــ أيّ رابطٍ ايجابيّ بينه وبين الدولة المزعومة. من هنا فهم أهل البلد أنّ عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم وألّا يراهنوا على الدولة والنّظام. عليهم أن يحموا أنفسهم بأنفسهم، وأن يحرّروا أرضهم بأنفسهم، وأن يحصّلوا ثأرهم (لأنّ لا عدالة) بأنفسهم. لهذه الأسباب، فإنّ الحكم على حبيب الشرتوني لا قيمة له: لا أحد في لبنان سيلاحقه، ولا أحد (لديه عقل) سيعتقله، ولا أحد سيضع مئات آلاف اللبنانيين أمام خيارٍ بين إطاعة «القانون» وبين حماية حبيب الشرتوني. الحكم البارحة ليس إلّا ضربة رمزيّة جديدة لمفهوم الدّولة وللعدالة في لبنان، وتأكيدٌ لغربة اللبنانيين عن وطنهم، أمّا الشرتوني وسيرته، فلن يمسّهما أحد.
مجتمع التّظاهر
إن كنّا نمارس باستمرار، في حياتنا الإجتماعيّة، «ألعاباً لغويّة»، وإن كان كلّ وسطٍ اجتماعيّ ومهنة وطبقة، يمتلك «لغةً» خاصّة به، عليك تعلّمها لكي تكون جزءاً من الجماعة، فإنّ لغة الطبقة العليا في لبنان هي «لغة التّظاهر». التمثيل الاجتماعيّ موجودٌ في كلّ مكان، ولكنّه يأخذ في لبنان (بسبب تاريخ البلد، وطبيعة الأفراد الذين يكوّنون نخبته) أبعاداً سورياليّة، وهو أساسيٌّ من أجل استمرار اللعبة الإجتماعيّة. بمعنى آخر، أن تنتمي إلى النّخبة في لبنان يعني أن تقابل، على سبيل المثال، من تعرف أنّه لصٌّ، ويعرف ذلك الجميع ــ ولا يحاول هو نفسه أن يخفيه ــ وأن تتظاهر بأنّك في حضرة رجلٍ محترمٍ ومهمّ. أن تدخل إلى مكتب ضابطٍ فاسد وتتظاهر بأنّك أمام ماريشال. أن توزّع الاحترام بحساسيّةٍ، وبحساب تراتبيّة السلطة والمال. وكلّما كنت بارعاً في هذه اللعبة، كلّما نجحت أكثر في الانتماء.
في لبنان، من الطبيعي للغاية أن يقوم الإعلاميّ (وللإعلام دورٌ أساسي في عملية «التبييض» هذه، وفرض المقاييس وتعويد النّاس على ما تريده السّلطة) بمصافحة أناسٍ مسؤولين عن عمليات تطهيرٍ طائفيّ في أيّام الحرب، والابتسام إلى جانبهم بل وسؤالهم عن الحالة الإنسانية في سوريا، وعن الموقف الأخلاقي الذي يتعيّن علينا اتّخاذه. حين اختطف الموساد المسؤول النّازي أدولف ايخمان وقدّمه للمحاكمة، كان بعض الشّهود يُصابون بالرّعب والإغماء حين يشاهدونه في قاعة المحكمة، مع أنّهم لم يقابلوه وهو لم يقتل أحداً بيديه. أمّا في بلدنا، فإنّ الإعلام يقدّم لنا أناساً في تاريخهم جثثٌ كثيرة لأبرياء كشخصيّات أبويّة محبّبة، ويمتدحون طرافتها وثقافتها (حين تكون ثريّاً، يصبح من السّهل أن تعتبر مثقّفاً). هذا التآلف اليوميّ مع الشرّ والجريمة والعمالة، والاعتياد على تقبّلها وتجميلها مع واجهةٍ بيروتية برجوازيّة و«ليبرالية»، قد خلق تشوّهاً في وجدان هذه الطّبقة وشخصيّتها لا يمكن قياسه أو تقديره.
هذه اللعبة هي ممّا يمنع التّصارح في لبنان، ويسمح لكلّ جماعة بصياغة صورةٍ وهميّة عن ذاتها، لا تزعجها حقائق التّاريخ، ويصير يفترض بنا أن «نحترمها» و«نراعيها» كأنّها تراث، وبشير الجميّل هو من بين هذه الأيقونات. لا أفهم لماذا يجب أن «نتفهّم» مشاعر من لا زال يمجّد بشير وسمير جعجع فيما، على الجانب الآخر، لم يظلّ أحدٌ من قيادات الحركة الوطنية لم يتبرّأ منها ويخطّئ نفسه، ولا أحد يستحضر تراثها اليوم أو يبجّله (إلّا في وجه المقاومة)، ونقدها مفتوحٌ لكلّ من شاء. مشكلة بشير الجميّل تشبه، في زاويةٍ منها، مشكلة أحمد الأسير: حين تتماهى مجموعةٌ من النّاس مع شخصيّة، وتجعل منها «رمزاً قوميّاً» يعتبر المسّ به مسّاً بالجّماعة، ويصادف أن تكون هذه الشخصيّة عميلاً خائناً، شخصيّة غير سويّة، أو مجرماً متطرّفاً لا يمكن التّعايش معه، وسيصطدم عاجلاً أم آجلاً بعواقب أفعاله. فماذا تقول لهم؟
حين نتكلّم على بشير، فإنّه ليس موضوع نقاشٍ وجدال؛ التّاريخ قد قال كلمته في الأمر وهناك كمٌّ هائلٌ من المذكّرات والوثائق والشهادات، يصعب أن يخرج بشير منها بطلاً أو قدّيساً. على عكس من يتحسّر ويزعم بأنّ مسيرة بشير الجميّل قد «بترت»، ولم يُتح له تقديم ما عنده و«إنقاذ لبنان»، فإنّ الحقيقة هي أنّ بشير قد أرانا ما يكفي خلال عمره القصير، والخلاصة الحقيقية الوحيدة هي أنّه ما كان يجب أن يصبح رجلٌ مثله ــ أصلاً ــ قائداً وزعيماً، وأن يتسلّم مسؤوليّة ميليشيا، وأن يرهن مصير بلدٍ بقراره. نحن نتكلّم على شابٍّ شارك شخصيّاً، بشهادة رفاقه، في مجازر طائفيّة كـ«السبت الأسود». كان بشير يفتخر، منذ صباه، بقتل الفلسطينيين وبالكلام العنصري عليهم وعلى العرب. حين أوقفه حاجزٌ فلسطينيّ قبيل الحرب (وتمّ إطلاق سراحه بوساطة)، عُثر في صندوق سيّارته على جماجم بشريّة كان يحتفظ بها كتذكارات (روى شفيق الحوت القصّة في مذكّراته). بل إنّه صفّى حلفاءه قبل أعدائه، بدءاً بالميليشيات المسيحية التي قاتلت إلى جانبه في الحرب، ومنع ــ بالدمّ ــ قيام أيّ خيارٍ سياسيٍّ آخر في «المنطقة الشرقيّة». هذا كلّه قبل أن يراهن على إسرائيل التي أحرقت بيروت وقتلت أكثر من عشرين ألف لبناني وفلسطيني وسوري حتّى يصبح رئيساً للجمهوريّة. إصرار البعض اليوم على أنّ انتخاب بشير الجميّل، تحت أنقاض بيروت وبحراسة الدبابات الإسرائيلية، كان شرعيّاً ويجعله «رئيساً سابقاً» (وهو ما لا يمكن أن يحصل في أيّ بلدٍ آخر يحترم تاريخه) لم يرفع من مقام بشير، بل خفض من مقام الرئاسة.
«الاغتيال السياسي» واغتيال الوطن
في دولٍ ديمقراطيّة مستقرّة، فيها انتخابات حقيقية ومؤسسات، من المفهوم أن يتحوّل الاغتيال السياسي إلى «خطّ أحمر» و«تابو»، فأنت لا يمكن أن تحضر العنف إلى ساحة مدنيّة، وأن تلغي بالقتل من أفرزته المؤسسات التمثيلية والإرادة الشعبيّة. ولكنّ تحويل الأمر إلى قاعدةٍ عامّة ومطلقة، «لا للاغتيال السياسي»، له مفاعيل مختلفة تماماً في بلادنا. أكثر المفكّرين الثوريين، مثلاً، قد أجمعوا على أنّه لا مفرّ ــ في إطارٍ صراعيٍّ عالي الكلفة ــ من تصفية أفرادٍ خطيرين، أو إلغاء خياراتٍ معيّنة، حين لا تكون موجوداً في سياقٍ «مدنيّ» تفاوضيّ والمعركة بينكم صفريّة النّاتج. حتّى دولٌ مستقرّة «عريقة»، كالولايات المتحدة وغيرها، تبقي على الإعدام في القوانين الفيديرالية حصراً من أجل حالات الخيانة العظمى. أن تكرّس «لا للاغتيال» قاعدةً هي كلّ ما يريده منك الخائن والعميل حتّى يستقرّ في المجتمع ويرتاح: «ناقشني ما شئت وحاورني، طالما أنّني استطيع فعل ما أريد بلا محاسبةٍ ولا خوفٍ ولا رادع». حين تكون في بلدٍ مخترقٍ متنازع عليه لا تحكمه قوانينٌ ولا مقاييس، وتُخرج سلاح العنف من المعادلة، فإنّك ببساطة تُخلي السّاحة لمن يملك باقي الأسلحة: المال والإعلام والدّعم الخارجي.
الخطوة التالية، التي شهدناها في لبنان بعد عام 2005، هي في ترسيخ قاعدة «لا للتخوين»، التي تمنعنا من التشكيك في شرعيّة أيّ فعلٍ، مهما كان، إن كان قد يُظهر صاحبه «خائناً» (وقانون «لا للتخوين» هو مفهومٌ طريف لا وجود له، على حدّ علمي، خارج الثقافة السياسية اللبنانيّة). من هنا أصبح في وسعك أن تكون عميلاً لجهةٍ خارجيّة عدوّة، بكلّ وضوحٍ ومن دون قلق، وأن تشارك في التحريض على أبناء بلدك إن لزم، وتساهم في الحرب عليهم. حين تخرج من لعبة «التظاهر» ولغتها تصبح الأمور أوضح، فلا أحد يخفي شيئاً. الكثير من النّاس يفترض أنّ المشكلة مع سمير جعجع و«القوات» هي مع التاريخ والحرب الأهليّة ولكنّ المشكلة، حقيقةً، ليست كلّها في الماضي. حين خرجت وثائق «ويكيليكس» عن لبنان، شاهدنا جعجع يتوجّه إلى السّفارة الأميركيّة و«يعرض» بوضوح في أيّار 2008: لديّ آلاف الرّجال المستعدّين وهم لا يحتاجون إلى غير التّسليح والتّمويل. بكلماتٍ أخرى، إدعموني وأنا أشارك في حربٍ أهليّة لحسابكم، وهذا كلامٌ إلى الأميركيّين. بعد الحرب الأهلية وأهوالها، بعد الغزو الصهيوني وفشله، بعد «سيّدة النجاة» والسّجن، كان هذا سلوك سمير جعجع لدى أوّل مفصل سياسي (وهو، دون غيره من أبطال «ويكيليكس»، قد خرج ليصرّح بعد تسريبها بأنّ ما في الوثائق حقيقيّ ودقيق). بل إنّنا نجد جعجع في وثائق الخارجية السعوديّة، عام 2012، وهو ينسج العلاقات مع مسعود البرزاني في العراق، وينصح المملكة بدعمه والتقارب معه! فلا يخبرنا أحد عن أنّ الماضي قد فات ونُسي، وأنّ النّاس تتغيّر، وأنّه في وسعنا إعادة التجربة مع الأفراد ذاتهم وتوقّع نتائج مختلفة (وبقايا اليمين اللبناني لا تفهم، كما ظهر في «ويكيليكس»، معنى أن تكرّر أخطاء السبعينيّات في أيّامنا هذه).
حكم الإعدام الذي صدر، كأكثر القرارات الرسمية في وطننا، هو تفصيل؛ الأساس هو ما يجري على المستوى الأوسع في المنطقة وكيف يكتب التاريخ. أين أصبح مشروع بشير اليوم وأين هم، بالمقابل، حبيب وأصدقاؤه؟ «القوّات اللبنانيّة»، التي حلمت بحكم البلد يوماً، أصبحت وكيلاً للعرب السعوديين (الذين طالما سخر بشير منهم ومن ثقافتهم «البدوية»)، وما بدأه حبيب الشرتوني يستكمل اليوم في جنوب لبنان، وفي فلسطين وفي العراق، وفي كلّ أرجاء أمّته حيث تُهزم مشاريع إسرائيل. حقبة بشير، والاجتياح الصهيوني والاحتلال، ستظلّ بالنسبة إلينا رمزاً للقعر الذي بلغناه يوماً ما، وحبيب الشرتوني أشعل شرارةً عكست حركة التّاريخ. مهما جرى، ومهما قالت المحاكم وإعلام الفساد، فإنّ واجبنا ــ على الأقلّ ــ هو أن تعرف أجيال المستقبل جيّداً من هو حبيب ومن هو بشير.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/10/21