مراجعة صريحة للأوضاع العربية
جورج قرم
منذ انهيار الوحدة بين مصر وسورية عام 1961، مرّ العالم العربي بأحداث جسيمة أدّت إلى تراكم مآس متعددة في دينامية فشل مزدوج: فشل التعاضد والتكاتف بين الكيانات العربية المختلفة في مواجهة التحديات الخارجية، وعلى رأسها تنامي الصهيونية إقليمياً وعالمياً، واستمرار الاستيطان في فلسطين، من جهة، ثم تعدُّد وتكاثُر أنواع التدّخل الخارجي بكل أساليبه، الناعمة منها كما العسكرية الباطشة، من جهة أخرى. وما حصل خلال العقدين الماضيين، وبوجه خاص في السنوات الأخيرة، يمثّل الانتقال من دينامية الفشل إلى دينامية التدمير الذاتي، حيث تقوم الدول العربية بتدخلات عسكرية وإعلامية في دول عربية أخرى، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما يؤدي إلى خلق حالات من الفوضى الفتّاكة، كما حصل في كل من ليبيا وسورية منذ 2011 واليمن منذ 2015 الذي يتعرض لهجوم عسكري شرس جواً وبحراً وبراً، هو بمنزلة جريمة كبرى ضدّ الإنسانية.
أمام هذا المشهد المروّع، لا شك في أن الوطن العربي بمعظم كياناته القطرية قد دخل فعلاً في حلقة من التدمير الذاتي؛ إذ فقدت العروبة معانيها الغنية التي ورثناها عن أجدادنا، رواد النهضة العربية، منذ بداية القرن التاسع عشر، وبخاصة بعد انجرار البعض إلى نظرية صدام الحضارات السخيفة، الآتية من الدوائر السياسية والأكاديمية الغربية. وقد رأى عدد من المثقفين العرب في الديانة الإسلامية المخزون الهويتي الوحيد للتصدي للحداثة الغربية وأثرها «الذوباني» في ما سُمّي الشخصية العربية والإسلامية.
في الوقت نفسه، أصبحت بعض الأنظمة العربية توظّف الدين في السياسة الداخلية والخارجية، إلى درجة تدريب عشرات الألوف من الشبان العرب في ثمانينيات القرن الماضي، وإرسالهم، لا ليحاربوا من أجل تحرير فلسطين، أو على الأقل تحرير الأراضي المحتلة عام 1967، وهي القضية العربية الأولى؛ بل تمّ إرسال هذه القوة العسكرية الضاربة لتحارب ضدّ الجيش السوفياتي في أفغانستان، نيابة عن الجيش الأمريكي الذي كان قد هُزم في حربه ضدّ فيتنام الشمالية الشيوعية. وقد مرّت هذه المحطة التاريخية الهدّامة من دون إثارة التساؤل أو الريبة في الحس القومي العربي آنذاك، إذ تصاعد تيار القومية الإسلامية عند الكثير من المثقفين، وكأن القومية الدينية هي الحلّ الناجع لضياع الكيانات العربية في بينية أنانية تعبّر عن المصالح القطرية الضيقة والقصيرة النظر للفئات الحاكمة.
في المقابل، كانت كل من تركيا وإيران تنمّي قدراتها العسكرية وتلاحمها الوطني، مستنجدتين هما أيضاً بالدين، إنما لتحقيق مزيد من القوة والقدرة، بينما ظلّت الكيانات القطرية العربية تتناحر في ما بينها حتى ولو كان الحزب الحاكم في قطرين عربيين متصارعين يَدين بالقومية العربية العصرية نفسها، كعقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي في كل من العراق وسورية. وقد جاءت إيران بعد الثورة الشعبية الكبيرة التي حصلت عام 1979، والتي وضعت اليد عليها من فئة من المراجع الدينية، لتعادي الدول الغربية وتحمل راية فلسطين، بدلاً من الأقطار العربية التي وقفت متفرجة وساكنة تجاه غزو إسرائيل للبنان عام 1982 واحتلالها عاصمته بيروت والقضاء على المقاومة الفلسطينية فيه وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا. هذا مع التذكير بأن مصر كانت قد وقّعت سلاماً منفرداً مع الكيان الإسرائيلي عام 1978 – 1979، سهّل احتلال بيروت، عاصمة العرب الثقافية.
وتتالت المآسي من بعدها في المشرق العربي، وكذلك في المغرب، حيث انفجرت أزمة الصحراء الغربية التي انسحبت إسبانيا منها عام 1975 بعدما كانت قد استعمرتها. فتسارعت كل من الجزائر والمغرب إلى التصادم: الأولى تساند جبهة البوليساريو وتطالب بإنشاء كيان عربي جديد؛ أما الثانية فتؤكد أن هذه المنطقة هي أساساً وتاريخاً جزء من الأراضي المغربية. وقد شلّ هذا الخلاف كل الجهود الرامية إلى تحقيق وحدة اقتصادية بين بلدان المغرب العربي التي أقيمت أسسها بإنشاء اتحاد المغرب العربي عام 1989، ومنذ أكثر من خمس عشرة سنة والحدود بين المغرب والجزائر مقفلة.
والحقيقة أن الشعار الذي رفعه كثير من الدول بعد حرب الخليج الثانية التي أخرجت، بقوة الجيوش الغربية، العراقَ من الكويت عام 1991، بعدما غزاها الرئيس العراقي في عام 1990، قد كرّس شعار الأنانية القطرية المدمّرة، أي شعار الكيان أولاً قبل أي شيء وفوق أي اعتبار.
أما المثقفون والإعلاميون العرب فقد تشتتوا وتفرقوا حسب انتماءاتهم القطرية أو على قاعدة الانقسام الخطير بين عروبيين وإسلاميين. وقد سعى مركز دراسات الوحدة العربية إلى إجراء حوار بين هاتين الفئتين من دون أن يؤدي ذلك إلى التوفيق المستدام بينهما، رغم تخفيف حدة الخطاب بين بعض أوساطهم، بل إن أحداث السنين الأخيرة التي ذكرناها أضافت نفوراً بين المجموعتين وداخل مجموعة العروبيين أنفسهم.
لكل هذه الأسباب؛ ألم يحن زمن المراجعة النقدية الصارمة من جانب كل من لا يريد أن تصبح العروبة ألعوبة بيد هذا أو ذاك من الكيانات العربية المتناحرة، بما يؤدي إلى تدمير الكيانات الأخرى في صراع حول مفهوم العروبة وإفراغه من معانيه التاريخية والثقافية الغنية، لكي نظل في دينامية التدمير الذاتي خدمة للمطامع الخارجية والاستعمارية ذاتها التي كانت قد دُحرت سابقاً من الوطن العربي بفضل جهاد مشترك بين الجماهير العربية؟
إن زمن المراجعة النقدية الصارمة ينتظر جهوداً مكثّفة من كل من له استقلالية فكرية واستقامة عقلانية
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/11/29