شماليّ القدس، غربيّ دمشق
عامر محسن
«نقوم اليوم، أخيراً، بالاعتراف بما هو جليّ: أنّ القدس هي عاصمة إسرائيل. هذا الفعل ليس أكثر أو أقلّ من اعترافٍ بالواقع»
دونالد ترامب
النقطة الأساس في القرار الأميركي حول القدس هي ليست أنّه، كما يحاول البعض أن يشيع، استسهالاً، لن يزيد الأمور سوءاً وأنّه لا يغيّر شيئاً، بل هو يغيّر؛ ولا أنّ المسألة «رمزية» فهي، إذاً، نافلة.
على العكس تماماً، بالنسبة إلى من قصف عقولنا في السنوات الماضية تنظيراً عن استرداد الأرض عبر المفاوضات والقانون والتضامن الأممي، و«النضال السلمي» من خارج ميزان القوى، فإنّ «ضربة رمزية» من هذا الصّنف هي الموازي الكامل ــــ بحسب منطقه ــــ للهزيمة. الصفة الأبرز للقرار الأميركي هي أنّه يعتبرنا (فلسطينيين وعرباً وسكاناً أصليين) «طرفاً ثالثاً»، خارجيّاً، في القرار والصفقة، لا يُحتسب له حساب (حتى ولو حاولنا إقناع أنفسنا بغير ذلك). في خطابه إلى الكونغرس حول الاعتراف بالقدس عاصمةً للكيان، كان واضحاً أنّ ترامب وإدارته يداريان ردود الفعل في أوروبا، والبيانات الشكلية التي ستخرج، أكثر من قلقهما من ردّة فعل الفلسطينيين والعرب. بل إنّ ترامب قد تقصّد ألّا يلفظ كلمة «فلسطين» مرّةً واحدة في خطابه الطّويل، مستخدماً تعبير «الفلسطينيين» بديلاً. وهو، في المقابل، تكلّم على القدس بصفتها مدينة واحدة، ولم يرد تعبير «القدس الغربية» أو «الشرقية» في كلامه. لا يمكنك أن تكون أوضح من ذلك.
الصهيونية و«التجربة اللبنانية»
أذكر أنّه خلال حرب 2006 علّقت المؤرّخة الأميركية جوديث تَكر، حين مرّت أمامها صور القصف الإسرائيلي المسعور على التلفاز، بما معناه أنّ السؤال الحقيقي ليس عن القضايا السياسية المحيطة بالمعركة، بل هي «هل يريد الإسرائيليون فعلاً أن يعيشوا وسط هذه المنطقة وبين أهلها؟». الفكرة هي أنّ من يريد أن يتعايش مع محيطه يوماً ما، أو حتّى أن يفرض نفسه، لا يستخدم مثل هذه القوّة والعنف في وجه من يريد أن يعيش إلى جواره، إلّا إن كان يتخيل له مستقبلاً كالحاً للغاية، وهو يعتبر أنّ في وسعه أن يفرضه عليه.
هذا صحيحٌ بخاصّة في حالة لبنان، الذي لم يكن يشكّل (حتى في 2006) تهديداً فعلياً ومخيفاً لإسرائيل، يستلزم تحريك الأساطيل الجوية، وقصف المدن والقرى بقنابل تزن أطناناً، وقتل الآلاف وتدمير البنى التحتيّة. طوال التسعينيات، أيّام اشتداد المقاومة، كان حزب الله تنظيماً صغيراً و«بدائياً» أمام الجيش الإسرائيلي ــــ بالمعنى «الاستراتيجي» الأوسع. حتّى لو فعلت المقاومة أيّامها كل ما في وسعها، واستهدفت الدّاخل الإسرائيلي، فإنّ الكاتيوشا كان قادراً على وضع حفنةٍ صغيرة من المستوطنات الصهيونية الحدوديّة في نطاق رميه، وبعضها أصلاً مأهولٌ بالكاد. حتّى خلال حرب 2006 كانت صواريخنا، عملياً، عبارة عن نسخ مكبّرة من الكاتيوشا إيّاه، يصيب نصفها محيط حيفا ويسقط النصف الآخر في البحر. ومع ذلك، كانت إسرائيل تضربنا بكلّ ما لديها؛ فتعلّم الجنوبيّون فنون الحرب، وارتقوا في وجه التحدّي، وأصبحوا ما هم عليه اليوم.
بالمناسبة، حين يهدّد القادة الصهاينة، وهذا أصبح تقليداً لديهم منذ سنوات، بتدمير مدننا و«محو» قرانا عن الخارطة وبإحراق البلد في أيّ حربٍ قادمة، فهذا تطوّرٌ بالغ الدلالة في الخطاب الإسرائيلي تجاه لبنان، وأفضل ما يعبّر عن تغيير موازين القوى. تاريخياً وبالإجمال، كان الإسرائيليون يمارسون أعمال التدمير هذه، ولكن من غير هذه اللغة الفجّة الدمويّة، بل هم كانوا يتظاهرون (أثناء قصف البلد) بالحرص على اللبنانيين وأنّ غاراتهم «لها دقّة جراحيّة»، أو يزعمون أنّهم يغزون البلد لـ«تخليص» أهله من المقاومة والفدائيين. اليوم، للمفارقة، خطاب حزب الله الحربي أشدّ هدوءاً و«اعتدالاً» وقانونيّةً بكثير من خطاب دولة إسرائيل، إذ يكتفي قياديو الحزب بالتهديد بضربات «مكافئة» (مطار مقابل مطار، مبنى مقابل مبنى، الخ) ويحذّرون العدوّ، فحسب، من أنّ جرائمه سيتمّ الردّ عليها، فيما تصريحات القادة الإسرائيليين تشبه بياناً مغولياً من القرن الثالث عشر. في الحقيقة، لا تمثّل هذه التهديدات تغيّراً في العقيدة الإسرائيليّة، بل في النّفسية والخطاب: هم أصلاً كانوا يستخدمون القوة القصوى ويدمّرون القرى عن بكرة أبيها في كلّ جولة، ويفرغون مخازن ذخيرتهم على جبهةٍ صغيرة، ويقصفون المكان الواحد مرتين وثلاثاً بعد استنفاد لائحة الأهداف. فماذا في وسعهم، بالضبط، أن يفعلوا أكثر من ذلك؟ غرف غاز وإبادة نووية؟ المسألة هنا هي أنّ هذه التصريحات ما هي إلّا تفريغٌ لخوفٍ مكبوت، ولا يهدّد بهذه الطريقة إلّا من هو خائف ويريد أن يّشعر نفسه بالقوّة. هم يعرفون أنّ الحرب القادمة ستكون كلفتها حقيقية وثقيلة ومدمّرة، وأنّ الصواريخ أصبحت موجّهة والرؤوس الحربية كبيرة، وأنّ الخطّ التصاعدي من حربٍ إلى حرب حوّل المواجهة اليوم إلى مقايضة ومخاطرة، ثمنها تلّ أبيب، وهم لم يعتادوا على مثل هذه الحسابات المرعبة ــــ فيما يجدون في وجههم أناساً لم تعد تخيفهم الحرب والتضحيات.
كلفة الاستسلام
أفهم تماماً أن تقوم الحكومات العربية بالتطبيع العلني مع إسرائيل، أو المشاركة في «صفقة» ترامب، ما لا أفهمه هو لماذا يجب أن تترافق كلّ خطوة تطبيعٍ لنظامٍ عربي مع حملة عنصرية وتحريضٍ ضدّ الفلسطينيّين، من مصر السادات إلى السّعوديّة اليوم. وتتكرّر في كلّ مرّة لازمتان، الأولى هي أنّ الفلسطينيين تخلّوا عن بلدهم و«باعوا أرضهم» وهم سعيدون بالحياة في مخيّمات اللجوء والمنفى، فليس علينا حرج (كأنّ لو ما جرى على الفلسطينيين من استعمارٍ إحلاليّ، لو جرى لأيّ إقليمٍ عربيٍّ آخر في المرحلة التاريخية ذاتها، لكانت النتيجة مختلفة، ولهزم هؤلاء الصهاينة وبريطانيا وأميركا. في الواقع، قامت أنظمة عربية عديدة ببيع أرضها والتفريط بحدودها ورهن مستقبل شعبها من دون أن يُمارَس عليها أيّ ضغط). اللازمة الثانية أكثر خبثاً، لأنها تدّعي حبّ الفلسطينيين، ومفادها أن القضية قضيّتهم والصراع صراعهم وما علينا سوى أن نتركه لهم ونتمنّى لهم التّوفيق. هذه الحجّة تشبه تماماً أن تقول للهنود الحمر في وجه البيض، أو لبلجيكا في وجه ألمانيا خلال الحرب، أنّ الموضوع بينكم وبين خصومكم وعليكم تدبّر أمركم، وهذا إخراجٌ فهلويّ لتركهم يُسحقون في وجه قوة أكبر منهم بكثير ــــ وهذه الحجّة هي جوهر خطاب النظام الرسمي العربي حول الموضوع، منذ أيّام السّادات وعرفات.
ولكنّ المسألة تذهب أبعد من ذلك، وليست متعلّقة فحسب بـ«التخلّي» عن الفلسطينيين أو التأقلم مع استعمار اقليمٍ من الأمّة، فمن يعتقد أنّ المواجهة مع الصهيونية تقتصر على موضوع فلسطين لم يتعلّم شيئاً من دروس العقود الأخيرة. الصهيونيّة، كما حاججنا في السّابق، هي شيءٌ أكبر بكثير من إسرائيل ومن النزاعات الحدوديّة، الصهيونيّة هي «روح العصر» المهيمن، تتماهى معه وتسري في عروقه، فتجدها في واشنطن وتجدها في بيروت والرياض. لو كان هناك من درسٍ من تاريخنا القريب، فهو أنّه لا يمكنك أن تفصل هذه الصّراعات عن بعضها البعض، وأن تواجه الصهيونية ــــ حقّاً ــــ «على حدى»، وأن تميّز بين العميل والسيّد، وأن تحارب إسرائيل فيما أنت تصالح أميركا (أو العكس)، أو أن تحلم بتحرير فلسطين وأنت تتّكىء على الخليج. في حالة أزمة كردستان العراق في الأشهر الأخيرة، مثلاً، ما لم يتمّ إيضاحه كفاية هو أنّ مسألة تقرّب قيادة البرزاني من الصهاينة ومؤيديهم في الغرب لا علاقة له بانفصال كردستان العراق أو بقائها ضمن البلد. حين تكون قيادات كرديّة حاكمة تتماهى مع الصهيونية وأعداء شعوب المنطقة، فهذا سيكون مشكلةً، دوماً (لنا ولهم)، بغضّ النّظر عمّا إن كانت كردستان العراق «جارة» مستقلّة، أو جزءاً من المجتمع الوطني العراقي، وهذا لا علاقة له بفلسطين والمسألة الرمزيّة واستفزاز المشاعر، بل بمستقبل منطقةٍ وطموحات شعوب وتجارب مرّة.
بالكلام عن الحكّام والنّخب، من الطبيعي أن يحارب النظام العالمي كلّ حركات المقاومة في أرضنا، من لبنان إلى اليمن، ولكنّ مواقف نخب هذه الدّول هو ما يحيّر. في عرفي، حين تكون في بلدك حركةٌ تقاوم الغزو والاستعمار، فأنت أمام ثلاثة خيارات: أمّا أن تنضمّ إليها وتساهم، أو لا تعجبك ــــ لأيّ سببٍ كان ــــ فتظلّ بعيداً وتشجّع من المدرّجات أو تصمت وتترك السّاحة، والخيار الثالث هو أن تبني بديلاً لها، حركةً تقوم بمهامها بأفضل منها. ولكنّ «الخيار الرابع» الذي استنبطه الكثير من وجوه العرب (أن تكرّس نفسك وحياتك، مع أيّ شريك، لمحاربة حركات المقاومة حصراً) فهذا ما قلّ أن تجد له مثيلاً بين النخب الوطنية في التاريخ الحديث. هذا الخيار، أن تعرّف نفسك بالضدّ وأن تقف في مواجهة (أو فوق) غالبيّة شعبك، هو ما يأخذك إلى المكان البائس بالمعنى السياسي، وهو يعني أنّ الرّهانات التي تقفز بينها باستمرار، حتّى ولو ربحت، لن تكون نصراً (لو كان هناك مثالٌ واحد أوصلت فيه خطط الغرب وغزواته ومؤسساته دولةً عربية إلى الديمقراطية والسلام، ولو كان الرضوخ لإسرائيل وأميركا يجلب تنميةً ورخاءً، لرأينا نتائج ذلك في مصر والأردن بعد أكثر من ربع قرن).
ولكنّه، من ناحيةٍ أخرى ليس خياراً بلا عقلانية: من جهةٍ، الهزيمة والانحدار اللذان بدآ في السبعينيات مثّلا، بالنسبة إلى الكثير من هذه النّخب (سواء في مصر السّادات أم في الأردن أو سوريا ولبنان)، «عصر ذهبي»، جمعوا فيه ثرواتهم وتغيّر أسلوب حياتهم وعادت فيه إلى بلادهم الجامعات الخاصة والأميركية ــــ حتّى ولو كان سواد شعبهم ينزلق إلى حياة من الفقر والجهل. تسمع الكثير من المصريين إلى اليوم (ولذلك مقابل في أكثر الدول العربية) يشكرون الله على السّادات، أو يشرحون بأن فترة السبعينيات والثمانينيات (أي تحديداً حقبة انهيار القطاع العام، وتدمير مستوى التعليم، وانحدار كلّ المؤشرات الكليّة) كان مرحلةً جيّدة وأفضل مما سبقها ــــ فهي كانت كذلك بالفعل بالنسبة إليهم.
من جهةٍ أخرى، هذا التقاطع العظيم بين النّخب التي نذرت نفسها لمحاربة كلّ من يقاوم الهيمنة، فيما بلادها أشباه مستعمرات، ليس عرضيّاً، ولا هو مجرّد تعبيرٍ عن حقدٍ وعقدٍ شخصية (ففي العالم الكثير غير المقاومة مما يستدعي الحقد). هم لديهم، قبل أيّ شيء، حساسية عالية لما يريده منك النّظام، وثمن الدخول إلى شبكة المصالح والتمويل (سواء في الغرب أو في الخليج)، فـ«قدسهم» في عالم اليوم هي واشنطن وبرلين، و«مرشدهم» الحقيقي هو جورج سوروس.
خاتمة
إن كان الإسرائيليّون قد تقصّدوا جعل لبنان، وكلّ من يقاومهم، مثالاً «يؤدّب» الباقين، فإن المثال قد تبلور بالفعل، وإن على عكس ما أراد الصهاينة، وهنا يجب أن يكون محور النّقاش. هذه البقعة من الأمّة، شمالاً من القدس وغرباً من دمشق، لن تحرّر فلسطين وحدها، ولكنّها تعلّمك الطريق إلى ذلك، وكيف يمكن لك أن تمحو كلام الكبار وتفسد خططهم، وتجعل الرئيس الأميركي يبلع كلامه، وأنّ ذلك كلّه ممكنٌ ومتاح. هي تعلّمك كيف تكون ندّاً. الأمر الوحيد الذي يمثّل «عاملاً تخفيفياً» بالنسبة إلى الكثير من نخب العرب هي أنّهم لم يمرّوا بتجربة يعرفها أكثر اللبنانيين، حين تعبر سياراتهم العتبة، التي صارت ذكرى، إلى ما كان يسمّى «المنطقة المحتلّة». عليك أن تعيش الاحتلال حتى تفهم شعور أن تعبر في حقولٍ وقرىً ووديان وشواطىء كانت مسلوبةً منك، فصارت لك، تذهب إلى آخر تخومها؛ ولو صادفت جنديّاً صهيونيّاً على الجانب الآخر، ففي وسعك أن تشير إليه وتسخر منه وترميه بالحجارة، فهو لن يجرؤ على المساس بك. هذا الشّعور، يجب أن نضيف، هو التعويض الوحيد الذي ناله أهل الجنوب المقاومون الفقراء عن كلّ التضحيات والانتظار؛ ولو وجدوا أنفسهم بعد التحرير في بلدٍ ظالمٍ يسحق مواطنيه، ولو وقف ضدّهم «إخوتهم» وحاربوهم، وهدّدوهم وشتموهم على المنابر، ولو تعالى عليهم المثقّف الفاسد ــــ فهم، على الرّغم من هذا كلّه، يملكون شيئاً أنت لا تملكه، وهو يستحقّ أن يعيش المرء لأجله. من هنا، يمكنك أن تعذر من لا يشاطرهم الرؤية إلى التحرير والمقاومة والقدس والنظام العالمي، فهم ببساطةٍ أناسٌ لا يعرفون هذا الشعور، ولا يفهمون معناه، ولا يدرون أنّه في المتناول، أو هم ــــ ربّما ــــ لا يريدونه أصلاً.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/12/09