صراعات المنطقة بين الأسباب المفتعلة والنوايا الصادقة
د. سعيد الشهابي
حالة الاستقطاب التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط تتجاوز في أبعادها وعمقها الخلافات السياسية بين دوله الكبرى كالسعودية وإيران، وأن كانت تلك الخلافات إحدى تمظهرات تلك الحالة. كما أنها تتجاوز البعدين العرقي أو الديني أو المذهبي، وأن كانت تلك الأبعاد هي الأخرى من بين تمظهرات الصراع.
قضيتان أساسيتان تمثلان عمق ما يجري من صراع مفتوح على كافة الصعدان: المشروع الإسلامي (في مجال الحاكمية والبديل الحضاري) وقضية فلسطين (وما تنطوي عليه من احتلال إسرائيلي وسعي متواصل للهيمنة على المنطقة).
هذا المنحى التحليلي جديد ـ قديم، لم يتوقف منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية قبل قرابة الأربعين عاما. أما بقية تجليات الصراع فإنما هي أدوات لتسهيل مهمة التعبئة لمواجهته وضمان توسع المشاركين في تلك المواجهة. فلو طرح الصراع بهذا الوضوح والصراحة لتواصلت حالة الالتفاف العربي والإسلامي الشعبي التي تزامنت مع ثورة إيران وتمحورت حول القضيتين المذكورتين.
الأولى أن جماهير المسلمين، خصوصا «الإسلاميين» اعتبروا ما حدث في المدن الإيرانية آنذاك تجسيدا لطموحاتهم وتشجيعا للعمل من أجل تحقيق مشروعهم الإسلامي، ولذلك تراجعت كافة الإشكالات بين المسلمين وأصبحوا مشحونين بالرغبة في تحقيق ما يبلور هويتهم ويعيد لهم شيئا من قوتهم وكرامتهم التي أهدرها المستعمرون والمحتلون على مدى العقود السالفة.
الثانية إن إعادة طرح قضية فلسطين ضمن مقولات «التحرير الكامل» وسحب الاعتراف الإيراني بالكيان الإسرائيلي، والخطاب الذي كان واضحا في خطابات الثورة، والإجراءات السياسية بما في ذلك غلق سفارة «إسرائيل» في طهران ووقف إمدادات النفط لها (وللنظام العنصري في جنوب أفريقيا) واستقبال الزعيم الفلسطيني، المرحوم ياسر عرفات، كل ذلك أوضح للغرب محورية القضية الفلسطينية في المشروع الإسلامي الذي كانت ثورة إيران التجسيد العملي الأول له على الصعيد السياسي. وللتدليل على ذلك يجدر طرح التالي:
أولا: أن المشروع الإسلامي جاء في نهاية أيام الحرب الباردة التي يعتقد الغرب أنه كسبها بشكل ساحق، الأمر الذي دفع بعض منظريه لطرح مقولات عديدة أهمها أن الليبرالية الديمقراطية تمثل نهاية التاريخ، أي أنها تجسيد لذروة النضج الإنساني. وكان استمرار التفاعل الشعبي مع الحركات الإسلامية يتصاعد تدريجيا. فللمرة الأولى في التاريخ المعاصر يخوض الإسلاميون الانتخابات في العديد من البلدان كقوى سياسية بديلة عن أنظمة الحكم القائمة. حدث ذلك في مصر والسودان والأردن والمغرب، بينما بقيت الدول التي تحاصر الإسلاميين وتسجنهم تعيش حالة من التوتر (تونس وليبيا والسعودية والبحرين). هذا المشروع كان تحديا لأكبر نظام عربي يرفع اليافطة الدينية.
السعودية شعرت على مدى العقود الأربعة الأخيرة بالقلق، ليس من إيران بل من الحركات الإسلامية التي تخوض الصراع كرائدة للمشروع الإسلامي. السعودية آنذاك، كانت تتحرك كحامية للإسلام، فهي أرض الحرمين الشريفين، وحاضنة حركة الإصلاح التي قادها محمد بن عبد الوهاب، ولديها من الممارسات الدينية ما لم يكن متوفرا في أية دولة أخرى، غلق المحلات التجارية وقت الصلاة ومنع الخمور علنا ووجود قوة رسمية لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن تجسد الجانب السياسي من المشروع الإسلامي في إيران دفع الرياض لحسابات معقدة خشية صعود الحركات الإسلامية الأخرى خصوصا الإخوان المسلمين، الحركة الإسلامية الكبرى والأعرق في المنطقة.
هناك إذن منافسون حقيقيون لنظام الحكم السعودي الذي كان يسعى للتفرد بالدين كرافد للحكم. تحركت الرياض منذ ذلك الوقت على صعدان شتى: دعم الحرب على إيران، توسيع مشروعها الإعلامي والسياسي والديني بالإنفاق الهائل والتوسع الجغرافي أيضا. وحسب ما جاء في الحلقة الأولى من برنامج بي بي سي الذي بث خلال الأسابيع الثلاثة الماضية فقد أنفقت السعودية 90 مليار دولار على مدى الأربعين عاما الماضية لدعم الوجودات الإسلامية في العالم، ومن بينها مؤسسات ومنظمات إسلامية ومساجد ومشاريع تعليمية. كانت استراتيجيتها لمنع توسع منافسة الإسلاميين لها مؤسسة على بعدين: الأول إقامة جدار مذهبي عازل بحصر إيران ضمن المذهب الشيعي، ومحاصرة الحركات الإسلامية السنية لمنع قدرتها على طرح بديل ديني يضعف هيبة المملكة. ولذلك كانت الحرب على الإسلاميين شاملة وحاسمة. ولا بد من تسجيل نجاحات محدودة للاستراتيجية السعودية. فبالإضافة لاحتضان المؤسسات والعلماء والجامعات والإعلام استطاعت تحييد قطاع العلماء في الكثير من البلدان لإبقائهم ضمن دائرتها الدينية. في الوقت الذي عانى الإسلاميون من التنكيل غير المحدود. ويجدر هنا استحضار تجربة الجزائر في العام 1992 عندما اكتسحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الانتخابات البرلمانية وكادت تشكل أول حكومة منتخبة يهيمن عليها تيار إسلامي واضح. وكان ثمن الانقلاب على تلك التجربة أكثر من مائتي ألف قتيل على مدى السنوات العشر اللاحقة. وعندما جاء الربيع العربي تجدد القلق السعودي من مستقبل المنطقة لعلمها أن أي انفراج سياسي في المشروع السياسي العربي سوف يؤدي لقيام أنظمة إسلامية خارج أطر السيطرة والإخضاع سواء بالقمع أو المال. وأن ما حدث في مصر في 2013 من انقلاب عسكري على الرئيس المنتخب وما صاحبه من تصفية دموية للإخوان المسلمين والتنكيل بهم أيما تنكيل، إنما كان محاولة أخيرة للحيلولة دون تجسد مشروع إسلامي سياسي يوفر بديلا شرعيا للمنظومة الدينية السعودية. وقد استمرت محاولات الرياض للتأثير على مسارات الأوضاع العربية خصوصا في مصر، التي تعتبر مفتاح العالم العربي، فما يحدث فيها يؤثر كثيرا على ما يجري في البلدان الأخرى.
الثاني: قضية فلسطين كانت وما تزال التمظهر الثاني للمشروع الإسلامي السياسي. فلقد احتضن الإسلاميون هذه القضية منذ أن حدثت قبل سبعين عاما، واعتبروها محور ذلك المشروع، ورفضوا الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، فضلا عن إقامة العلاقات أو التطبيع معه. ولذلك فما أن انتصرت الثورة الإيرانية في مثل هذه الأيام من العام 1979 حتى تبوأت قضية فلسطين موقعا بارزا في السياسة الخارجية الإيرانية، كما تمت الإشارة إليه.
الثالث: الغربيون ينظرون لكلا المسألتين من منظور آخر. فهم يرفضون المشروع الإسلامي لأنه بديل عملي لمشروعهم الذي أصبح يعاني من إمراض شتى تجسدها التطورات السلبية في أوساطها كظاهرة ترامب وصعود اليمين المتطرف وتصاعد النزعة نحو التفرق والاختلاف بين ضفتي الأطلسي ونزعة بعض الدول الأوروبية للخروج من الاتحاد الأوروبي، وتراجع الأوضاع الاقتصادية، والاختلاف على العلاقات مع روسيا. كما لديها اختلافات حول قضايا الأمن الدولي والعلاقات مع العالم الإسلامي، والموقف إزاء الاتفاق النووي الإيراني. وحتى السياسات تجاه «إسرائيل» أصبحت موضع اختلاف مع تصاعد ما يسمى «معاداة السامية» في أوروبا وبروز اليمين المتطرف. مع ذلك فان النظام السياسي الغربي داعم لـ «إسرائيل» ويرى في الرفض العربي ـ الإسلامي للاحتلال أمرا مقلقا، ولذلك يجد هذا النظام الغربي نفسه أكثر انسجاما مع الأنظمة العربية الراغبة في التطبيع مع «إسرائيل».
الرابع: أن العناوين الأخرى هامشية وليس لها عمق جوهري في الصراع المحتدم في المنطقة. فالطائفية سلاح وليست مشروعا، يستخدم ضمن سياسة التأثير السلبي على المشروعين: المشروع الإسلامي والقضية الفلسطينية. الامة يمكن توحيد صفوفها على اساس الانتماء للإسلام بما هو دين جامع شامل لها، ولكنها تتمزق حين تثار الاختلافات المذهبية أو العرقية، فالمشروع الإسلامي قادر على جمع شتاتها، وهذا ما لا يرغب فيه أعداؤها. قضية السعودية الحقيقية ليست مع اليمن أو قطر، بل مع ما تمثله هاتان الدولتان من امتداد وعلاقات مع المشروع الإسلامي أو الحركات المرتبطة به. ومع بروز تركيا على المسرح السياسي الإقليمي أصبحت العلاقات معها هي الأخرى تعاني من نفور يصل إلى حالة العداء لأنها تمثل حالة تقترب من المشروع الإسلامي السياسي الذي يهدد واحدا من أهم مقومات الحكم السعودي.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/01/29