هل البقاء ضمن المنظومة الأمريكية هو قضاء وقدر؟ ماذا عن روسيا وإيران وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية بل تركيا والصين؟
د. عبد الحي زلوم
إن الانعتاق من الهيمنة الأمريكية يجب أن يخضع لحسابات ربح وخسارة مادية ومعنوية ووطنية آخذين بخصوصية البلد المعني. لكن هناك قواسم مشتركة بين كل تلك الدول وهي أن كلفة متطلبات أحادية الهيمنة الأمريكية وعولمتها قد فاقت المقدرة على التحمل فوجدت تلك الدول أن مقدار المعاناة والخسارة نتيجة بقائها ضمن تلك الهيمنة يفوق بكثير خسارتها ومعاناتها كثمنٍ للخروج من طوق تلك الهيمنة. وسنأخذ بعض تلك الدول التي خرجت من طوق النظام الأمريكي كحالات دراسة.
فلنبدأ بروسيا:
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بطريقة مآساوية وبروز يلتسن كقائد للاتحاد الروسي في انقلاب دبرته وأشرفت عليه الأجهزة الأمنية الغربية تمّ سلب الممتلكات والشركات العامة أيام الاتحاد السوفياتي بواسطة المافيا المحلية والمؤسسات البنكية الغربية مكنت عشرة من رؤساء عصابات المافيا تلك وأغلبهم من اليهود الصهاينة امتلاك ما يزيد عن 50% من اقتصاد الاتحاد السوفياتي السابق. وأصبحت روسيا عاجزة حتى عن دفع رواتب جنودها وانهار جيشها وخسر حربه الأولى في الشيشان . وعندما أظهرت استطلاعات الرأي بأن يلتسن سيخسر إعادة انتخابه أرسلت واشنطن مجموعة عمل من خبراء إعادة تكوين الرأي العام وبعد أن كان مرشح الحزب الشيوعي في المرتبة الأولى نجح يلتسن بفارق 1 أو 2 %.
عندما طلبت روسيا من الولايات المتحدة مساعدة مالية قالت كوندا ليزا رايس وكانت عندئذٍ مسؤولة عن ملف الاتحاد السوفياتي في مجلس الأمن القومي الأمريكي أن على روسيا أن تصطف في طوابير صندوق النقد الدولي كأي دولة أفريقية !
كان يلتسن يؤمن بأنه ما عاش من يمشي على الأرض صاحياً . في كتاب The Clinton Tapes يذكر الكاتب أنه أثناء زيارة يلتسن إلى واشنطن وضيافته في (بلير هاوتس) في البيت الأبيض سمع الحراس أجراس الأنذار عند الفجر فوجدوا يلتسن سكراناً في ملابسه الداخلية في الشارع العام وعندما سألوه ماذا يفعل قال انه ذاهب لشراء البيتزا . هكذا كان حال روسيا في عهد يلتسن عندما جاء بوتين .
من المؤكد أن يهود بطرسبورغ هم من رشحوا بوتين وتبنوه لخلافة يلتسن . وقد وصفه رئيسان أمريكيان بعد مقابلته في سنوات حكمه الأولى بأنه صديق للغرب وللنظام الرأسمالي فماذا حدث؟
توصلت الولايات المتحدة مع روسيا إلى اتفاقات عديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ولم تلتزم بأي منها خصوصاً تعهدها بعدم ضم دول حلف وأرسو السوفياتي السابق إلى حلف الناتو . إلا أن الولايات المتحدة نكتت بعهودها وضمت أكثر جمهوريات حلف وأرسو لحلف الناتو وتم تطويق روسيا بشبكة من الصواريخ المحملة بالرؤوس النووية . وكانت المواجهة الأخيرة في أوكرانيا. تبين لبوتين أن سياسة الولايات المتحدة ترمي إلى تهميش دور روسيا بل وتحويلها إلى دولة تابعة ضمن سياسة الأحادية الأمريكية ، فلم يجد بدا من الصمود وأخذ مواقف لحماية استقلال روسيا السياسي والاقتصادي والعسكري . وقصة المواجهة مع السياسات الأمريكية في أوكرانيا وسوريا وغيرها أصبحت معروفة. ولجأت الولايات المتحدة إلى أساليبها في المقاطعة الاقتصادية والحرب النفسية والإعلامية . وبالرغم من ذلك أصبحت روسيا ندا في كثير من المواقف واستعادت تأثيرها كقوة عالمية كبرى .
وماذا عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟
بعد نجاح ثورة الخميني في إيران بدأت الولايات المتحدة بأعمالها العدائية ضد الجمهورية الإسلامية الوليدة.
فبعد شهور من نجاح الثورة أقامت الولايات المتحدة إذاعة سرية باللغة الفارسية في مصر تحرض ضد النظام الجديد . وكذلك شجعت الولايات المتحدة صدام حسين عبر حلفائها في الخليج على شن حرب على إيران دامت 8 سنوات وقامت دول النفط في الخليج بتمويلها بما يزيد عن 100 مليار دولار .
كان الانقلاب الأمريكي البريطاني سنة 1953 على حكومة مصدق الوطنية التي أممت النفط ما زال ماثلا في ذاكرة الإيرانيين فقام شبابهم باحتلال السفارة الأمريكية وحجز موظفيها كرهائن لضمان عدم اعتداء الولايات المتحدة على ثورتهم.
في 19/1/ 1981 توصلت الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى ما تمّ تسميته ( اتفاق الجزائر ) والذي جاء فيه نصاً : ” تتعهد الولايات المتحدة أنها لا تقوم اليوم ولن تقوم في المستقبل بالتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر عسكرياً أو سياسياً في الأمور الداخلية لإيران “. وبناء عليه تم الإفراج عن الرهائن في السفارة . إلا أن الأعمال العدائية استمرت منذ يوم الثورة الأول وحتى يومنا هذا. وعلى سبيل المثال لا الحصر:
موّلت المخابرات المركزية الأمريكية فئةً منشقة في باريس تحت اسم (جبهة تحرير إيران) بقيادة علي أميني والذي كان بطل إعادة النفط المؤمم بعد الانقلاب الأمريكي عام 1953 إلى الشركات البريطانية والأمريكية . وفي الوقت ذاته قامت بتمويل العديد من الحركات شبه العسكرية المتواجدة على الأراضي التركية وإحداها كانت بقيادة Bahram Aryana رئيس أركان الجيش الإيراني في عهد الشاه.
في سنة 1986 قامت CIA بالقرصنة على تلفزيون إيران الرسمي لبث خطاب ابن الشاه رضا بهلوي والذي حث فيه على الثورة ضد النظام وقال فيه “أنني عائد إليكم”. وقامت CIA بتمويله ثم أوعزت لحلفائها في الخليج للقيام بذلك .
في سنة 2000 حث أعضاء الكونغرس على مساعدة جماعة مجاهدي خلق المصنفة إرهابياً وأفصحت مجلة The New Yorker بأن إسرائيل كانت تدعم هذه المجموعة منذ أمد طويل.
عندما جاء المحافظون الجدد في عهد جورج دبليو بوش وحددوا إيران كأول دول محور الشر الذي يجب إزالته شكلت مجموعة من المحافظين الجدد وأغلبهم من الصهاينة اليهود وبقيادة نائب رئيس المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي ما اسموه” التحالف من أجل الديمقراطية في إيران” والهدف هو تغيير النظام.
بعد غزو العراق في 2003 أصدرت وزارة الدفاع أمراً يقضي بأن التنسيق مع أقطاب المعارضة الإيرانية يجب أن يتم عبر Douglas Feith. وكيل الوزارة المسؤول عن السياسات وهو من الصهاينة المتعصبين والمعروفين .
ومع أن اتفاق الجزائر نصَّ: “أن الولايات المتحدة سوف تلغي كافة العقوبات الاقتصادية والتي تمّ سنها بعد 4/11/1979 ” إلا أنّ الولايات المتحدة بدأت بتكثيف عقوباتها الاقتصادية كما هو معلوم اليوم .
أما بقية القصة مع إيران واتفاقها النووي و محاولة الولايات المتحدة إلغائها فهي قضية معلومة للجميع هذه الأيام .
ولكن ماذا كانت نتيجة هذا التآمر ضد إيران لحوالي 40 سنة ؟ أصبح نفوذ إيران من حدود أفغانستان وحتى البحر الأبيض المتوسط وأصبحت قوة إقليمية لها شأنها.
وماذا عن تركيا ؟
لا شك أنها حالة تستحق الدراسة. جاء نظام حزب أردوغان بقبول ضمني من الولايات المتحدة. أنقذ أردوغان وحزبه تركيا من دولة شبه فاشلة إلى دولة اقتصادها تم تصنيفه الــ17 عالمياً. لم تقم تركيا بسداد كافة ديونها فقط في عهده بل أقرضت صندوق النقد الدولي. وعندما استعادت تركيا سيادتها الاقتصادية وبدأت بممارسة سيادتها السياسية وقطعت علاقاتها مع الكيان الصهيوني بعد حادثة سفينة مرمرة تجاوزت بذلك الخطوط الحمر للنظام الصهيو أمريكي . فلتت الولايات المتحدة على أردوغان دبابير عميلهم فتح الله غولن ثم حاولوا الانقلاب عليه بل واغتياله.
بالرغم من كون تركيا عضو في يقوم الغرب بزرع كيانات كردية على حدوده متآمرة مع من تمّ تصنيفهم كإرهابيين انفصاليين داخل تركيا . وهم اليوم يقومون بمحاولة جره إلى حرب استنزاف.
وجد أردوغان أن عليه أن يعيد حساباته ويبدل تحالفاته وهو اليوم كاد أن يصبح جزءاً من حلف روسي إيراني تركي كقوة تغيير فاعلة في المنطقة .
وماذا عن الأردن ؟
كما أسلفنا ليس الأردن إيران أو روسيا أو حتى تركيا وله خصوصيته و محدداته في موارده البشرية والطبيعية وظرفه خاص يجب أن يدرس بعناية .
بقيت المساعدات الاقتصادية سنة بعد سنة منذ إنشاء الإمارة كأمر مسلم به . كانت حدود حرية الحركة السياسية مربوطة بحدود حرية الحركة الاقتصادية للإمارة ثمّ المملكة بعد ذلك . كيف يمكن لبلد ممارسة سيادته السياسية والاقتصادية في وقت تنتظر الخزينة المساعدات نهاية كل شهر لدفع رواتب الموظفين ؟
لكن هناك اليوم تغييرات جوهرية لم يبادر الأردن بها وإنما كان التغيير من قبل حلفاءه لغرض في نفس يعقوبهم بالرغم من قيام الأردن بدوره الوظيفي بكفاءة . الآن قالوا لا داعي للمساعدات سواء منا أو من حلفاءنا النفطيين فتدبروا أمركم عبر قوانين الجباية بالرغم من علمهم بأنها ستنهك الطبقة الوسطى والفقيرة وستزيد من معدلات الفقر فهل هذا هو مبتغاهم لما له من عواقب اجتماعية واقتصادية وسياسية وفي وقت زادت أعباء الدولة نتيجة إلى اللجوء الناتج عن سياسات (الحلفاء )؟
أضعف الأيمان أن يُكافَئ الأردن بعدالة مقابل خدماته الوظيفية إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. ؟
إن حماية الأردن لحدوده مع العراق وسوريا والسعودية وفلسطين المحتلة لا يقدر بثمن. دعنا نأخذ هذه الحالة كمثال. إن قيام الأردن بحماية الحدود العراقية الأردنية من التسلل أثناء فترة المقاومة العراقية بعد الاحتلال قد وفر على الاحتلال الأمريكي ما بين 5-10 آلاف جندي أمريكي . وحيث أنّ كلفة الجندي الأمريكي في جبهات القتال يعادل مليون دولار في السنة (حسب بيانات وزارة الدفاع ) فذلك يعني أن الأردن قد وفر على الخزينة الأمريكية ما بين 5-10 مليارات دولار سنوياً لمدة 8 سنوات أي ما بين 40-80 مليار دولار . إلا يحق للأردن أن يطالب بشطب ديونه كاملة مقابل خدماته و هل ما تدفعه السعودية هو صدقة أو واجب مقابل خدمات أمنية لو نحينا اسطوانة الأخوة جانباً ؟
يبدوا أن الأردن قد توصل أن إعادة تشكيل تحالفاته لم يأت أوانها!
وأخيراً ماذا عن فلسطين و”صفقة قرنهم”
إذا كان المؤمن لا يلدغ من الجحر الواحد مرتين فلقد لُدِغَ أصحاب أوسلو ألف مرة وما زالوا يقولون هل من مزيد؟
الفريق الذي أعد الصفقة” ثلاثة من الصهاينة الأكثر تطرفاً من نتنياهو: كوشنر كبير مستشاري ترامب وصهره وديفيد فريدمان وجيسن جغرينبلات وجميعهم من المساندين للحركات الاستيطانية سياسيا ومالياً يساعدهم سفير إسرائيل في واشنطن. إذن ما يمكن أن يُتوقع من مثل هؤلاء؟ هم يريدون استسلاماً لا سلاماً.
خذوها مني من الأخر : رحم الله من قال “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”. ونحن وإياهم والزمن طويل !
اللهم اكفنا شر “إعرابنا” أما الصهاينة فالمقاومة أولى بهم.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/01/30