الأمير السعودي.. يدفع
مالك ونوس
على طريقة الأفلام السينمائية الأميركية التي تتعامل بنمطيةِ الإعلام السائد مع صورة العربي، تناولَ الإعلام الأميركي، وخصوصاً الصحافة المكتوبة، زيارة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الولايات المتحدة التي بدأت في 20 مارس/ آذار الجاري، بالتعليق معنوناً مقالات كثيرة "الأمير السعودي كذا وكذا". وردَّدته الصحف، مستخدمةً ضمير الغائب من دون ذكر اسمه الصريح. وكان لافتاً إظهاره أنه ذلك الأمير الغني الذي جاء لينفق أمواله الطائلة كيفما اتفق. ولم تمنع المعايير الصحافية كاتبا من عنونة مقالته "الأمير السعدي يدفع". حيث الإعلام الأميركي، ومن قبله المسؤولون الأميركيون، لا يعرفون عن محمد بن سلمان سوى مُسدِّد الفواتير ومجيب طلباتهم. لكن، إلى أي حد يمكن لهذا الأمير أن يدفع؟ وإلى متى يمكنه الاستمرار في فعل ذلك؟ ويبقى السؤال الأهم: مقابل ماذا يدفع المبالغ التي يطلبها منه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب؟
أما الشأن الذي يدفع بن سلمان من أجله هذا الثمن، ويرى أنه يستحق كل هذه المبالغ التي أُنفقت، وقد لا تكون هي الأخيرة، فلا بد أنه أمرٌ جللٌ، ولا يتحقق له عبر البوابات الدبلوماسية المعتادة. بالتأكيد يستحق ذلك الأمر كل المبالغ التي دُفعت، والتي ستدفع، وتبين أنه كان يسعى إليه، منذ زيارته الأولى واشنطن، في يونيو/حزيران 2016، بعد تعيينه ولياً لولي العهد. ثم في زيارة أخرى، في مارس/ آذار 2017، بعد شهرين من تسلُّم ترامب منصبه والتقاه خلالها. لكنه حصل على ذلك الأمر، خلال الزيارة الحالية، صراحة ومن فم ترامب الذي دبَّجه بقوله له تعليقاً على تعيينه وليّاً للعهد: "أنت الآن أكثر من وليٍّ للعهد، لذلك أريد أن أهنئك، وأعتقد أن أباك اتخذ قراراً حكيماً للغاية". ثم زاد في إطناب بن سلمان، وفي التأكيد على صواب قرار والده، حينما أردف: "وأنا أفتقد والدك فهو شخص خاص بالنسبة لي". وهو التعبير الأميركي عن رضى الإدارة الأميركية على تعيينه وليا للعهد، ومباركتها سياساته التي يتَّبعها تجاه دول الجوار، لاسيما اليمن وقطر وإيران ولبنان، علاوة على سياسته الداخلية والاستراتيجية التي وضعها أمامه لفترة حكمه المقبلة.
"سيستمر المسلسل الأميركي في استنزاف السعودية مالياً وهو استنزافٌ يبدو أن وليِّ العهد سعيد به"
ولا يريد بن سلمان من ترامب إسماعه هذه العبارة، بقدر ما يريد منه إسماعها للآخرين في بلاده، من المنافسين أولاً، خصوصاً عشية عزل الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد. وثانياً للمشكّكين في خبرته وقدرته على الحكم وإدارة البلاد، إضافة إلى أقرانه في الدول الخليجية الأخرى. فقد ضَمِنَ، قبل الآن، مباركة الإدارة الأميركية العملية التي جاءت به وليّاً للعهد، بعدما كان وليّاً لوليّ العهد. لا بل تبيَّن التواطؤ الأميركي في هذه العملية بسبب ما يراه ترامب، وصهره ومستشاره، جاريد كوشنر، في شخصية بن سلمان من قدرةٍ على مواجهة طموحات إيران، ونفوذها المتزايد في المنطقة، ومحاربة "التطرّف الإسلامي" في بلاده، وإدخال "إصلاحات" فيها. إضافة إلى ذلك، هنالك ما هو أهم، وهو استعداده للمضي في عملية تطبيعٍ مع الكيان الإسرائيلي، تتبدى مظاهرها في كل يوم. من تلك المظاهر ما يصرح عنه الإعلام الإسرائيلي من زيارات بين الطرفين، والتنسيق في المواقف حول الإرهاب ومصر وإيران، وغيرها، إضافة إلى استيراد السعودية منتجات تكنولوجية إسرائيلية.
ولكن، إلى متى سيستمر الأمير بالدفع؟ وإلى متى سيبقى، هو وعائلته، قادرين على الدفع للمؤسسات الأميركية التي يبدو أن لا شيء يسد فمها الشبق للمال السعودي، وهو شبَقٌ جاء ترامب ليزيد فيه، وليلبي له الرغبات التي لا تُحد. فقد ظهر ترامب على شكل من ينتظر فترة لكي تمتلئ جيوب العائلة السعودية الحاكمة بالمال، فيسطو عليها. ثم يُدْبِر فترة انتظارٍ أخرى ليعود فيُقْبِل هو، أو يُقبل عليه أحد أفراد تلك العائلة حاملاً ما تيسر له من أموال. وبدا أخيراً أن بن سلمان سيستمر بالدفع إلى آجالٍ غير معروفة. فبعد أن حصَّل ترامب 460 مليار دولار من الأموال السعودية في زيارته الرياض، في مايو/ أيار 2017، حصَّل له بن سلمان الأموال التي حملها معه، في زيارته أخيرا، من أبناء عمومته، وأفراد آخرين في العائلة وفي النظام، الذين أودعهم الحجز في "الريتز كارلتون" لكي يُخرجوا له ما في جُعَبِهم من أموال ينقلها لتصب في يدي ترامب. وهي من الضخامة بحيث ستوفر 120 ألف فرصة عمل للأميركيين، حسب بيان البيت الأبيض الذي تحدث عما جرى في اللقاء بين ترامب وبن سلمان. كما أن من الدلائل على أن السعوديين سيستمرون في الدفع تكرار ترامب رؤيته بشأن السعودية "البقرة الحلوب"، قائلاً على مسمع بن سلمان، والوفد المرافق له، خلال زيارته أخيرا: "السعودية دولة ثرية جداً، وسوف تعطينا، كما نأمل، جزءاً من هذه الثروة في شكل وظائف وعقود شراء معدات عسكرية"، وهو ما تم.
"مقابل ماذا يدفع محمد بن سلمان المبالغ التي يطلبها منه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب؟"
تشير "حملة مكافحة الفساد" التي شنها محمد بن سلمان، في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وجَمَعَ على أثرها مليارات الدولارات من نزلاء "الريتز كارلتون"، وطَرْح أسهم شركة أرامكو النفطية العملاقة للاكتتاب، ومشاريعه بشأن تنويع مصادر دخل المملكة من غير النفط، ومنها مشروعات الهيئة العامة للترفيه، تشير إلى نضوب ثروة العائلة المالكة، أو ربما وصولها إلى نقطةٍ يتعذر عليها تلبية مطالب واشنطن المالية. وحيث ستبقى تلك المطالب ماثلةً في مقابل استمرار التغاضي، أو حتى توفير الغطاء، لسياسة المملكة الإقليمية والداخلية، سيفكر بن سلمان بخياراتٍ أخرى توفر له المليارات المطلوبة. وربما يكون من تلك الخيارات السطو على ثروات الجيران. وعندها يتكرّر سيناريو قطر مع دول خليجية أخرى، لا تتوفر لها موانع الغزو العسكري التي توفرت لقطر، وجعلت السعودية تُقلع عن فكرة غزوها.
وكما صبغ عدم الاستقرار عهد محمد بن سلمان في وزارة الدفاع عبر شن حربٍ، لا تعرف كيف تنتهي، على الحوثيين في اليمن، ومن بعدها عبر فرض الحصار على دولة قطر، وما تبعه من زيادة توتير العلاقة مع إيران ولبنان، فإن عدم الاستقرار هذا مرشحٌ للاستمرار. ومرشحٌ للمساهمة في زيادة الاستقطاب في المنطقة، لتزيد الحاجة إلى تدخُّلٍ أميركي يتَّخذ دور القاضي. ومن هنا، سيستمر المسلسل الأميركي في استنزاف المملكة السعودية مالياً، وهو استنزافٌ يبدو أن وليِّ العهد فيها سعيد به، ما دام يوطّد سلطته، من دون معرفة إلى أي مدى ستبقى المملكة قادرة على الدفع.
لصالح موقع "العربي الجديد"
أضيف بتاريخ :2018/03/30