دلالات مسيرة «يوم الأرض»
زياد حافظ
المسيرة الشعبية في فلسطين وفي قطاع غزّة بشكل خاص في «يوم الأرض» تستدعي وقفة، لأنها في رأينا تشكّل نقطة تحوّل في مسار الصراع العربي الصهيوني. فالمسيرة سطّرت نموذجاً جديداً في مسار كفاح الشعب الفلسطيني يؤثّر بشكل مباشر على مسار الصراع العربي الصهيوني وإفرازاته في الوطن العربي. وهذه المسيرة التي انطلقت في 30 آذار/ مارس مستمرّة هذه السنة حتى 15 أيّار/ مايو يوم الذكرى السبعين للنكبة ويوم نقل السفارة الأميركية إلى القدس. وبمقدار ما هي استكمال لمسار نضالي طويل امتدّ على قرن من الزمن، وهذه حالة فريدة في تاريخ البشرية، فهي أيضاً استكمال لإنجازات تتحقّق في الميدان السوري تعزّز خيار المقاومة، خاصة أنّ سورية استُهدفت بسبب دعمها للقضية الفلسطينية ولم تتخلّ عنها كبعض الدول العربية. كما لا يغيب عن بالنا دعم الشعب اليمني للقضية والذي يتظاهر دائماً تحت القصف لنصرة فلسطين والقدس. كما لا يمكننا أن ننسى مسارات القوى الشعبية العربية في دحر جماعات التوحّش والغلوّ والتعصّب التي أُوجدت لخدمة الكيان الصهيوني عبر تدمير الموروث السياسي والحضاري عند أبناء الأمة في صراعهم مع الكيان الصهيوني المستعمر الغاصب. فهذا التلاقي بين المسارات العربية يستدعي ملاحظات عدّة:
الملاحظة الأولى، هي حجم المشاركة الشعبية التي كانت لافتة للنظر رغم التعتيم الإعلامي المهيمن في الغرب والإعلام «الرسمي» العربي. غير أنّ مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الشبكة العنكبوتية، عربياً ودولياً، انفجرت بأخبار المسيرة والاشتباكات مع العدو الصهيوني وجرائم جنوده بحق المتظاهرين السلميين. فكانت تغطّي لحظة بلحظة محطّات المسيرة ما جعلها تدخل كافة البيوت العربية وغير العربية وشكّلت صدمة كبيرة للكيان الصهيوني ومؤيّديه في الغرب وفي بعض الأقطار العربية.
الملاحظة الثانية، هي استمرارية التظاهر في القطاع، رغم جرائم القتل المتعمّد وبالدم البارد للشباب والأطفال والصحافيين الذين كانوا يغطّون إعلامياً تلك المظاهرة. وهذه الاستمرارية أربكت قيادة الكيان والنخب الغربية وبعض النخب العربية المتجاهلة ما يحصل في غزّة. فصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية المعروفة بميولها الصهيونية شجبت قتل الإعلاميين بدم بارد ما يدلّ على تجاوز قيادات الكيان خطوط الحمراء كافة التي ترسمها الأخلاق والمواثيق الدولية. وهذه الاستمرارية في مسيرة «يوم الأرض» تهدّد الهيكل الورقي الذي حاولوا بناءه حول تراجع أولوية قضية فلسطين في الرأي العالمي والوجدان العربي والإسلامي. وما لفت النظر هو وعي المتظاهرين في التنديد بتلك النخب العربية التي وهبت أرض فلسطين وقدس العرب والمسلمين والمسيحيين لمن لا حقّ له فيها. فكانت هتافات وتمزيق صور «الواهبين» لتعبّر عن غضب الشعب الفلسطيني ضدّ من لم يكتف بالتخاذل، بل أصبح شريكاً في العدوان على فلسطين والقدس حتى على أقطار عربية شقيقة.
الملاحظة الثالثة، هي لجوء القيادات الغربية والصهيونية إلى الهروب إلى الأمام عبر تصعيد إعلامي وسياسي وعسكري أمني ضدّ كلّ من سورية وروسيا والجمهورية الإسلامية في إيران. وبطبيعة الحال ضدّ أهلنا في القطاع وفلسطين في محاولة بائسة لتحويل الأنظار عمّا يحصل في غزّة. ونشير هنا على سبيل المثال إلى التصريح المقيت لمن ينتحل صفة «الفيلسوف»، الفرنسي الصهيوني ألان فينكلكروط، الذي اعتبر أن لا مكان لأطفال غزّة بين البشر وأنهم «فائض» يجب التخلّص منه! فكرّس أنّ الصهيونية والنازية من رحم واحد!
إنّ ما حصل مؤخراً من تصعيد ضدّ روسيا وإيران وسورية هو لتحويل الأنظار أيضاً عن الإنجازات في سورية، وإنْ أدّى إلى مجابهة مفتوحة مع محور المقاومة. فكلفة المجابهة عندهم أقلّ من كلفة نتائج نجاح مسيرة الأرض واستعادة الدولة السورية للسيطرة الكاملة على الأراضي السورية. فبات واضحاً أنّ محور السياسة الخارجية الغربية وفي مقدّمتها الأميركية هي حماية الكيان كآخر معقل مضمون للغرب للسيطرة على المنطقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً. فالمصالح الحيوية للولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا في توتير المنطقة هي لخدمة الكيان الصهيوني ليس إلاّ. فبات واضحا أنّ وقت المجابهة الحاسمة قد اقترب وإنْ كانت نتائجها غير مضمونة على الإطلاق للمحور الغربي الصهيوني والرجعية العربية.
الملاحظة الرابعة، هي أنّ القتل الجماعي للفلسطينيين يساهم بشكل أساسي في تثبيت البوصلة عند الرأي العام العربي الذي حاولت الرجعية العربية تغييرها أو تحريفها أو حتى التخفيف من حجمها البشري والجغرافي. غير أنّ التوازن السكّاني بين العرب المقيمين في فلسطين المحتّلة والمغتصبة وبين الصهاينة اليهود قد تحقّق وفقاً لإحصاءات نُشرت في شهر آذار/ مارس 2018 ما يجعل أيّ عملية لاحتواء الفلسطينيين أمراً مستحيلاً حتى مع محاولات التطهير العرقي العنفي والصريح. هذا التوازن السكّاني سيختلّ لاحقاً بشكل أكبر لمصلحة سكان الأرض الحقيقيين، أيّ الفلسطينيين، وذلك بسبب المرأة الفلسطينية التي تُنجب يوماً بعد يوم مَن سيُقاوم المستعمر المحتلّ من المهد إلى القبر. وهذا ما سيدفع الصهاينة الوافدين إلى فلسطين إلى مراجعة وجودهم والتفكير الجدّي في هجرة معاكسة مجدّداً. إنّ حجم الوافدين أصبح أقلّ من حجم المهاجرين وذلك للسنوات الخمس الماضية كما تشير الإحصاءات. وتأتي هذه التحوّلات السكّانية رغم ادّعاءات رئيس وزراء الكيان بأنّ الموقف الاستراتيجي للكيان أصبح أحسن مما كان عليه منذ تأسيسه وذلك بانضمام دول عربية وازنة في الخليج إلى المحور الصهيوأميركي في المنطقة لمواجهة المقاومة في لبنان رأس الحربة للخطر الوجودي على الكيان.
الملاحظة الخامسة، تتعلّق بالمراهنين العرب على الكيان بأنه ورقة رابحة. وبالتالي يجب تملّك تلك الورقة. إنّ تعاظم المسيرة وحجم الاشتباكات وتصاعد عدد الشهداء والجرحى والإرباك الإعلامي والسياسي لدى قيادة الكيان، وحتى في الغرب الحليف له، قد يفرض على أولئك المراهنين مراجعة حساباتهم. هذا ما تتساءل عنه مواقع أميركية مرموقة عدّة. وقد ترى هذه المواقع أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد يصل إلى نتيجة أنّ الكيان الصهيوني أصبح من الأصول المُتلفة التي تشكّل عبئاً على الولايات المتحدة. وبما أنه رجل غير ملتزم عقائدياً أو حتى سياسياً بأيّ شيء، فلا يجب أن يستغرب المرء إنْ أقدم الرئيس الأميركي على مراجعة جدوى التحالف الاستراتيجي مع الكيان، إذا ما تفاعلت وتضخّمت المسيرة للوصول إلى العصيان المدني والشلل التام في كامل فلسطين. وقد تعزّز جدوى تلك المراجعة تقديرات قيادات عسكرية أميركية ما زالت في الخدمة أو متقاعدة تعتبر الكيان الصهيوني أصبح عبئاً على سلامة وأمن القوّات المسّلحة الأميركية المنتشرة في المنطقة، رغم الادّعاءات المعاكسة لذلك.
وأخيراً لا يمكننا إلاّ أن نربط مسيرة يوم الأرض مع المسيرة الأخرى التي تدعو إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية وإلغاء الاستثمارات فيها وإنزال العقوبات والمعروفة بحملة «بي دي أس». فمحطة «روسيا اليوم» في أميركا كشفت في تقرير مفصّل تداعيات تلك الحملة ونجاحها وإرباك قيادات الكيان الصهيوني والمنظّمات الصهيونية في العالم. فرغم حملات التضليل والتشوية والتشريعات المضادة التي تتعرّض إلى حملة «بي دي اس»، إلاّ أنّ الأخيرة استطاعت أن تدخل في وعي قطاعات واسعة في الغرب وتستجيب مع تلك الحملة. فهذا برهان آخر عن الإبداع الذي نراه في مقاومة المحتلّ المستعمر الصهيوني. فمسيرة يوم الأرض تتكامل مع حملة «بي دي أس» كما تتكامل مع كافة أشكال المقاومة لمحاولات شطب القضية الفلسطينية من الوعي العربي وعند أحرار العالم.
سنكون قريباً مجدّداً على موعد جديد مع إبداع الشعب الفلسطيني في ابتكاره وسائل جديدة للمقاومة. فهذا الشعب يُعيد الأمل لهذه الأمة ويوحدّها وإنْ كنّا نتمنّى أن تكون قيادات الأمة على مستوى المسؤولية وترتقي إلى مستوى شعوبها، خصوصاً الشعب الفلسطيني.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/04/14