لماذا يريد ترامب الانسحاب ليس فقط من سوريا بل من الماضي العسكري الأمريكي
خالد فارس
ثلاث محطات مهمة في القرارات العسكرية الأمريكية: الأولى تشريع ترومان عام 1947 والذي أكد فيه التزام أميركا لمساعدة الدول التي تتعرض للتهديد الشيوعي, الثانية جيمي كارتر في عام 1980 عندما أعلن “الخليج الفارسي” منطقة أمريكية حيوية وتهدد الأمن القومي الأمريكي, والثالث في عام 2002 عندما أصدر بوش شعارً “أميركا لن تنتظر التهديدات لمرحلة متقدمة قبل ضربها”.
انتهى الصراع مع السوفيات, لماذا تريد أميركا أن تُبْقى على ذات الإستراتجية القديمة؟ من بين ما هو مطروح جدياًّ للتقييم والنقاش, بل وصل الأمر إلى المطالبة بتحديد تواريخ للخروج من الناتو و إغلاق قواعد عسكرية في أوروبا (فرانكفورت شتوتغارت). والأهم, إيصال رسالة إلى أوروبا, الحد من اعتماد أوروبا على أميركا في مواجهة روسيا, كما حدث عندما طلب نيكسون من حلفاء أميركا في آسيا, تقليل الاعتماد على أميركا من جراء نتائج الحرب مع فيتنام.
عندما أطلق جورج بوش الابن مقولته الشهيرة على أثر أحداث 9/11, وإعلانه الحرب على الإرهاب, والتي انطلقت من أفغانستان إلى العراق, أطول حروب أميركا عبر التاريخ. من بين ما يقول وهو يشجع المواطن الأمريكي على الاستمتاع في الحياة وإنفاق المزيد من الأموال, ” “استمتعوا بالحياة كما نريدها أن تكون”. https://www.c-span.org/video/?c4503933/the-enjoyed.
هل أفلحت أميركا في نشوء مجتمعات حديثة من الحروب التي خاضتها أو انخرطت بها؟ الجواب بالتأكيد نَفْياً. فَشِلَتْ أميركا في إستراتيجية حروبها, كل المجتمعات التي تدخلت فيها أميركا عن طريق الحروب, انتهت إلى مجتمعات مٌمَزّقة, بلا حرية ولا ديمقراطية, مثل أفغانستان والعراق, ولاحقاً ليبيا, وأزمات فى أميركا اللاتينية, وحصار على دول فقيرة. فلا الحرب الذكية ولا الغبية الأمريكية, قادرة على بناء مجتمع مستقر, يعيش سلم أهلي ووحدة مجتمعية وطنية.
حتى تدخل أميركا غير المباشر, من وراء الكواليس في إدارة الحروب قد فشل تماماً. ,اكبر مثال على ذلك, حرب الأعوام الثمانية بين العراق وإيران, وتورط أميركا فيه من وراء الكواليس. إضافة إلى تدخل أميركا في صراع دول أميركا الجنوبية السياسية، واعتقالها بعض مواطنيها بتهمة تهريب الأسلحة والمخدرات إلى داخل الولايات المتحدة.
جَلَبَتْ سياسات بوش الابن كارثة على أميركا. استلم بوش الابن البيت الأبيض من بيل كلينتون ومعه فائض ميزانية 2.4%. في نهاية حكمه انقلب الفائض إلى عجز نسبته 3.6%. في خمس سنوات بعد 9/11 ارتفعت انفاقات الدفاع والتسلح في عهده إلى 70%, ولم يكن كافياً معدلات النمو لتغطية الحرب على الإرهاب, يضاف لها الفشل الكبير في أفغانستان و العراق. انخفضت معدلات الأنفاق على الأبحاث في المجالات خارج التسلح.
لجأ الاقتصاد الأمريكي إلى عملية التمويل المالي من خلال مشتقات مالية ذات مخاطر مرتفعة. حسب التقديرات التي جاءت في تقرير مدرسة لندن للدراسات الاقتصادية -LSE, (Sundaram 2012), أن قيمة المشتقات المالية, التي قامت على Over-Counter, (الحسابات المكشوفة), إلى 600 تريليون دولار أمريكي. علماً أن ناتج الدخل القومي العالمي, في 2008 لايتجاوز 63 تريليون دولار (حسب تقرير البنك الدولي عام 2008). وهذا يعنى أن المشتقات المالية تعادل تسعة أضعاف ونصف ناتج الدخل القومي العالمي.
توجت أزمة 2008 “الرهون العقارية”, تراكم الانكسارات الاقتصادية. سيدفع ثمن ذلك المواطن الأمريكي (العمال والموظفين). جرى تخفيض الأجور بمعدلات أودعت المواطن الأمريكي العامل في أتون المديونية, ففي أميركا نسبة الديون الشخصية (شراء منازل, تمويلات استهلاكية, قروض أخرى) إلى ناتج الدخل القومي ارتفعت من 63% في 1995 إلى 93.5% في عام 2008.
نسبة تصدير رؤوس الأموال الأمريكية إلى خارج أميركا, للاستثمار, تناقصت من 1.4 تريليون دولار في 2008 إلى 1.2 تريليون دولار في 2015. ونسبة تدفقات رؤوس الأموال إلى أميركا, من غير الأمريكيين, تناقصت من 329.1 تريليون إلى 322.5 تريليون دولار. (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية).
بروز ظاهرة ترامب هي انعكاس للأزمة المزدوجة: اقتصاد لم يتعافى من أزمة 2008 ويرث تداعيات مديونية كبيرة تخترق الاقتصاد الأمريكي. ويواجه طبقة عاملة وحرفيين ومهنيين, تعيش أحلك ظروفها.
منذ عام 2008, تعانى العولمة من تراجع في درجتها الذي تؤكده هذه المؤشرات. هذا لا يعني أن الرأسمالية خرجت من مرحلة العولمة, بل السؤال الذي يطرح نفسه هل الحول المطروحة سوف تؤدى إلى تعميق العولمة أم محاصرتها.؟
لقد أشرنا إلى ذلك في مقالة سابقة في جريدة رأى اليوم, أن أميركا ترامب, هي أميركا الأمة الجاكسونية, وليس أمة العولمة.
https://www.raialyoum.com/index.php/%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%84%D9%81-%D8%B7%D8%A8%D9%82%D9%89-%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%88%D9%89-%D9%84%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D8%A7%D9%83%D8%B3%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9/
لم يقدم ترامب أية حلول ذات مغزى لتعميق العولمة, بل مُعاكساً لها. لجأ إلى قانون الضريبة بنسبة 15.5% (لمرة واحدة فقط), على أرباح الشركات الأمريكية في الخارج, لتحفيزها على إعادة توطين الأرباح, والتخلص من الحواجز التي تمنع دخول هذه الأموال.
مما حدى بشركة أبل أن تقول أنها سوف تستثمر أكثر من 30 مليار دولار للتوسع في السوق الأمريكي, وأقرت بأنها سوف تدفع ضرائب قيمتها 38 مليار دولار لمرة واحدة فقط, عندما تعيد توطين أرباحها من الخارج.
إذا قام ترامب بأية حرب جديدة, سيجد أماه سؤال كبير: من أين سيأتي بالتمويل؟
المصدر الأول هو رفع الضرائب على المواطن الأمريكي المديون, وهذا ما سوف يناقض سياسته. الثاني الحصول على مصدر خارجي, من دول الخليج, مثلاً, ولكنه يقول إذا قامت دول الخليج بتمويل الحروب الأمريكية, قد تتوقف دول الخليج عن تمويل الاقتصاد الأمريكي بحجة استنفاذ مصادرها المالية على تمويل الحرب, وثانياً يقول لماذا لا أستخدم هذا الاستعداد لتمويل برامج تطوير أسلحة متقدمة ذات تكنولوجيا تجعل من أميركا أولاً, متفوقة على العالم.
يحيلنا ذلك إلى مقابلة مع مارتن ديمبسى رئيس هيئة الأركان الأمريكية السابق, في مقابلة مع مجلة فورية بوليسي (سبتمبر 2016) “يقلقني كثيراً مجهودات الصين في بناء قدرات وموارد للإمدادات …لتصل إلى مستوى يهدد بنية حلفائنا…..هناك قدرات تسعى إليها روسيا من الواضح أنها سوف تهدد قدراتنا لإعادة فرض أوروبا, وإذا استطاعوا ذلك, سوف يفقد الناتو مصداقيته….يطورون قدرات على سبيل المثال في الفضاء, الأمن السيبرانى, صواريخ كروز أرضية, قدرات تسليحية تحت الماء, كلها تهدف إلى تهديد القدرات عبر الاطلنطى وتضع الناتو في ظروف متزعزعة”.
يحذر من تقادم بعض الأسلحة الأمريكية, ويعتبر أن تخفيض الميزانية هي أكبر التحديات “المطلوب منا أن نجد 750 مليار دولار لتوفيرها…”.
في مواجهة سؤال بخصوص سوريا: “أنفقنا 500 مليون دولار على برنامج تدريب-وتسليح ولم يتحقق شيء يذكر”؟ يجيب على ذلك “نبحث عن معارضة معتدلة, مقاتلة, نخرجهم من المعركة, ونسمح لهم بانجاز وحدة بينهم, ….ولكن الذي اكتشفناه أنه عندما نقدمهم مرة أخرى للبيئة في سوريا يتم التعامل معهم على أنهم أعضاء مضادة, …لهذا قمنا بإلغاء هذا البرنامج”.
إستراتجية أميركا العسكرية ستنعطف صَوْبَ تطوير ترسانة تكنو-حربية فائقة التقدم, ذات مردود مربح اقتصادي أولاً, ويخلق واقع سياسي أمريكي جديد في العالم, يختلف عن واقع العولمة (يعاكس العولمة تحديداً) ويقطع مع واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية. الأهم أن لايتأثر المواطن الأمريكي أقتصاديا أو سياسياً.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/04/22