لحظة الوعي الغائبة... متى تنبعث؟
محمد عبدالله فضل الله
في ظل ما يحتوشنا اليوم من أزمات تلفّ واقعنا برمّته، يبقى التعويل على لحظات أصيلة لا ندري إن كانت ستنبعث من تحت ركام أيامنا الكالحة وتعيد شيئاً من كرامتنا المسحوقة كبني بشر غابوا أو أُقحموا في دوامة مصنوعة لا يُدرى لها من قرار.
خيبة كبرى استفاقت عليها أجيالنا تظلّل كل تفصيل من تفاصيل عقيدتها وتاريخها وفكرها، وجدت نفسها أمام جدران عالية بينها وبين غيرها وتربت مشاعرها على الانغلاق على ذاتها والنقمة منها وإظهار النقمة مزيداً من القلق والتوتر في التصرف السياسي والتمثل الثقافي والديني والتاريخي.
أجيالنا استفاقت على ضياعها اليوم، وانصدامها من عصر يفرض سيرورته وسطوته بقوة وبين خيبة تريدها حبس نفسها في صندوق عتيق من التقوقع المميت في زوايا التاريخ التي نسجت عناكب الحسابات الآدمية المريضة خيوطها حولها.
كل ذلك يعطينا صورة أولية عن نقمة ومحاولة عودة مكرهة وسلبية للذات إلى عصور النصوص الدينية الأولى، إنها وحدة الشعور بالذنب كي تتشفى كل جماعة من الأخرى وكي يقمع كل رأي الرأي الآخر في نقض تام لمنطق العدل، إنه الكبت الجماعي حيث الجماعات الدينية تعيش بمخيالها في عصر النص وتستحضره متمنية بلاوعيها ممارسة فعل الانتقام من الآخر، وهذا ما يبرر لنا الكثير من السلوكيات والتصرفات لجماعات متطرفة وتكفيرية أو لجماعات مغالية ومتمسكة بشعائرية فارغة.
إنه الحشد والاستحضار من أجل تقوية الحصون المذهبية والعقيدية كنوع من البدائية التي تستبطن سوق الناس كهمج رعاع وإغلاق تفكيرهم وحبسهم عن التنفس في الهواء الطلق وعن النبع المشترك للحقيقة الواحدة التي يسعى الإنسان إلى الارتواء منها، فالدفق في الماء مادياً يقابله دفق في المشاعر والمواقف والنشاطات معنوياً، والتي لا بد وأن تكون كونية متعالية بآفاقها وحدودها.
لقد أصبح مجمل نشاطنا مجرد انعكاس لما اختزنته الذاكرة الجمعية من ويلات الإلغاء والإقصاء والقتل والتدمير وأسست عليها نظرياتها وتأويلاتها التاريخية والعقيدية رافضة الآخر ومحاربة لكل فرصة لنقد يثبِّت التربة الخصبة للإبداع والإنتاج. لذا نعثر عند كل موقف ومناسبة على توتر ظاهر في الخطاب عند هذه الفئة أو تلك حتى في إظهارها لفكرها وثقافتها ومذهبيتها لأن الخلل يبيّن فيها نتيجة عدم تصالحها مع نفسها ومصارحتها لمعتنقيها بما هي عليه الحال فعلاً، إنها مكابرة للهروب بالذات دوماً نحو الماضي مخافة المواجهة مع الحاضر والمستقبل كي لا تورط نفسها بأسئلة غير قادرة على الإجابة الشافية عنها.
تناغي كل فئة النصوص الدينية وكأنها شيء منسي لا بد من بعثه والنهوض به، وبالتالي فرضه قهراً حتى من دون فهم لذلك. وتتنوع الأساليب والخطابات في ذلك، نجدها في أشكال الممارسات الدينية المختلفة عند بعض المتصوفة وغيرها من المذاهب التي تغلي على نار التفاعل الطقوسي والجنائزي، كما عند الشعوب القديمة من حلقات أناشيد تصاحبها رقصات وتمايلات وحركات مهرجة إلى مسيرات وطقوس مصاحبة لإدماء الأجساد، ناهيك عن الشتم والسب لرموز إسلامية، وكأن التشيّع على سبيل المثال بات في هذه الصورة الشعائرية فقط على غناه، بينما يغيب الفعل الثقافي والحضور الفاعل لحركة نشر الثقافة القرآنية والمفاهيم الإسلامية الأصيلة حتى أصبح البعض جهلة وغوغائيين لا يعرفون عن التشيّع والتسنّن سوى رسمهما الغريب.
تؤجل كل فئة اعترافها بعجزها عن مواكبة ما تحمل من تراث وتمعن في كبتها الجمعي وتستعين بالعصبيات المذهبية التي تنكأ الجروح عندما تحتاج إلى ذلك عوض عن تفعيل النصوص والانفتاح على إعادة قراءتها بلغة عصرية تعبِّر عن المحتوى بشكل يشفي الصدور ويبلور وعياً جماعياً سليماً وناشطاً ومؤثراً يشعر بالانبعاث والحياة ومواكبة وتيرة اللحظات المتسارعة.
وبدل أن نستفيد من تجارب التاريخ والعمل على إظهار روح النص الديني، نغرق شيئاً فشيئاً في رمال الترهيب الفكري والقمع الديني الناعم أحياناً، والمجهر بقساوته أحياناً أخرى الذي يشهّر بالآخرين ويرفض أفكارهم ويحاربهم ويلفق لهم التهم بعدم كفاءتهم حيناً وخروجهم عن القواعد المقدسة أحياناً أخرى، كما جرى مع كثيرين من أصحاب الرأي كالسيد الإمام محمد باقر الصدر والإمام موسى الصدر والعلامة الشيخ محمد جواد مغنية والمرجع السيد محمد حسين فضل الله والمفكر علي شريعتي وغيرهم كثر من رجال دين وعلم في الإسلام والمسيحية.
الدين هو التحفيز المستمر للطاقات، هو نفسه ميدان الإبداع والإنتاج ولا يرضى بأقل من ذلك، وإلا كان ديناً مشوهاً وناقصاً وميتاً غير قابل للحياة وخارجاً عن لغة الله والحساب والثواب.
نجد تهافتاً عند الجميع نحو تكريس النزوع الجهوي والمذهبي والطائفي والحزبي والعائلي ضمن هستيريا جماعية صاخبة تديرها أياد خفية وظاهرة من جهات دينية وسياسية مستأثرة تخفي شبكات من المصالح والحسابات ولو كان ذلك على حساب سياسة حماية النوع البشري ككل بكل تنوعاته وغناه والمحافظة على سلامة وجوده المادي والمعنوي.
إنه توسل للمقدس عند البعض عند كل حدث لتعزيز الحضور الموهوم والمصطنع ولو أدى ذلك إلى شيوع المدنس والانحراف، وبدل تحرير المقدس من أنانياتنا المفرطة أمعنّا في تدنيسه وبتنا نسهم في تشكيل إنسان اليوم الذي لا يمتلك روحاً نشطة واعية، بل متلقن يحسن فن التلقين ويخرج للحياة منكسر الوجدان ومنغلق العقل ومشلول الحركة.
التسامح مرتبط أشد الارتباط بالحرية التي تهدف إلى حفظ النوع البشري
فأي دين نريد؟ وأي ذات نريد العودة إليها لننهض؟ ألم نكتف بعد من كل هذه التوظيفات والتفسيرات والتأويلات لنصوص أرهقناها بعصبياتنا وضيق آفاقنا وعليل آرائنا؟!
لقد أدخلَنا عناد البعض وأهواؤهم المريضة في سبات عقلي تبريري لا جدوى منه، يلوك المعلومات ويعيدها في حفلة صخب مجنونة ومتعبة ومملة لم تعد تجدي بهذه الطريقة كمسألة الخلافة وشتم الصحابة وسب زوجة النبي. فالتاريخ يريدنا أبناء يومه الذين يعتبرون منه ويؤسسون لغده جيلاً متفاعلاً بحق مع قضاياه، لا أجيال منفعلة شغلها فقط التباكي وجلد الذات والاسترجاع لما مر.
المطلوب تاريخ وفقه وعقيدة وكلام وحدوي يجمع وينهض بالأمة ويضعها على سكة السلامة والبدء بمرحلة من المصارحة والمصالحة مع الذات وعدم الاستمرار في جلدها وسحقها بغية الانطلاق لكتابة تاريخ جديد يليق بعقولنا وحضورنا في سجل الوجود.
لا مناص من البدء بصوغ وجودنا وفق شروط مختلفة وجديدة كما يؤكد على ذلك إيمانويل كانط عبرالاشتغال الدائم على الذات والخروج من الإيمان العقيدي الضيق إلى الإيمان التفكري.
لذا، ففعل الإيمان يهذب الروح ويدرب الوجدان على مواصلة التدفق في الوعي والفهم للمحيط ونسج لغة كونية واسعة يتناغم فيها السماوي والأرضي في وحدة مشدودة إلى حاكمية مطلقة تدفع بالإنسان إلى النضال ضد كل شكل من أشكال التشتيت والتقسيم والتفتيت لقواه ووجوده.
فلا مجال سوى الابتعاد عن النزوع التدميري الذاتي وتوريط لغة الدين في حساباتنا ومصالحنا البغيضة ولو كلّف ذلك مزيداً من القتل والتعنف والتطرف والغلو والتمزق، فلا بد من حماية الدين أولاً من أنفسنا المريضة وتحصينه وتثبيته جدياً في نفوسنا من خلال التعلم والتدرب على مفردات التسامح والحرية والتضامن والتآخي والتعارف والتعاون على البر والتقوى. هذه المفردات التي هي خيارات لازمة ومسارات ضرورية في أي عملية تغييرية في بنية المجتمع، حيث تحتاج إلى جهد متواصل ومحاسبة دائمة للذوات تدفع نحو تغيير إيجابي منتج.
إن التسامح مرتبط أشد الارتباط بالحرية التي تهدف إلى حفظ النوع البشري. إنها الحرية المسوؤلة التي لا تعني انسحاقاً أمام نزوات الذات وتحتفظ بفاعليتها وقدرتها على حسم الموقف المطلوب من دون تنازل وضعف، تماماً كما أشار فولتير: «إنني مستعد لأن أموت من أجل أن أدعك تتكلم بحرية مع مخالفتي الكاملة لما تقول».
ترى، هل نحن المدّعين للحرية اليوم وللحداثة والديموقراطية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وحتى المتدينة منها، نعيش حقاً هذا التفاني الحر والمسوؤل كما لفت إليه فولتير؟! هل نستطيع البوح اليوم أمام متعصب لرأي ديني أو زعيم سياسي وحزبي وعائلي بما نقتنع به؟ أم أن المداهنة والمداراة والنفاق من يحكم الكثير من أوضاعنا وعلاقاتنا على حساب الحق!
الإنسان الذي يمتلك وعياً لنفسه ووعياً اجتماعياً عالياً يحاول جاهداً وباستمرار أن يخرج نفسه من سجنها الكبير من خلال خروجه – كما أشار إلى ذلك المفكر علي شريعتي – من سجن الطبيعة والتاريخ والمجتمع.
سجن الطبيعة التي تحولت إلى رمال متحركة استغرقت فيها النفوس التي لا تحصد سوى السراب، فراحت تمعن وتمعن في طلب نزواتها وتحقيق أنانياتها القاسية ولو على حساب الدماء والأعراض، وسجن التاريخ العتيق حيث حبس البعض نفسه في أحداثه وظروفه ويأبى الخروج منه ويعده شيئاً غير قابل للقراءة والنقد. فحوّله التاريخ إلى جسد خاو بلا روح، وسجن المجتمع بحيث يردد ما يمليه عليه غوغائيوه بلا تفكير، يتحرك ويأكل ويتكلم ولكن ليس بإرادته بل بعقلية وإرادة عقل جمعي مريض وبلغة اجتماعية خارج زمنه.
إنه القمع الجماعي الهستيري في حال أردت الخروج على المألوف الذي بات أقدس من الذات الإلهية نفسها، فأنت باستطاعتك حتى في البيئات المتدينة سب الذات الإلهية بلا مشكلة، حتى إنها أصبحت عادة يستعرض بها البعض من المنحطين عضلاتهم ولكن ليس بمقدورك نقد زعيم أو قائد أو مرجع أو حزب.
قديماً قال الحكماء «رأي العليل عليلٌ» بمعنى أنه ما دام الإنسان غير معتدل في قواه الروحية والنفسية والأخلاقية لا يحارب الكبر والعجب بالذات وحب الأنا والهوى والحسد والغل والحقد وشهادة الزور وغير ذلك، فإنه ليس بمقدوره اقتناص لحظة الوعي المطلوبة كي يبدأ بعملية نهوض وتغيير لواقعه وسيبقى في اغتراب عن الحياة يمعن في تسويفها وقتل لحظاتها، حيث الإبداع والإنتاج والفهم والوعي لا يمكن السير بها من دون إنسان قد عرف نفسه فعرف المطلق وانطلق قوياً ثابتاً على يقين وبصيرة من أمره.
إن لحظة وعي الدين كلغة
صافية تبدأ من الإحساس الحي والفاعل بقيمة الذات التي تفكّر خارج حدود الأنا وتكتب تاريخها ومسيرتها بلا جشع وخداع وتزلف من خلال امتشاق لحظات واعية هادفة تبني وتوحد ولا تفرق. فلا يمكن للحياة أن تتقبل لغة وخطابات المستغلين والمنتفعين والمنافقين والمتظاهرين بلبوس الدين والسياسة، فهذا مناف لمنطق الحق ولميزان العدل الذي يفضح هؤلاء ويعيرهم عاجلاً أو آجلاً.
جريمة كبرى بحق أجيالنا التي أصبحت هدفاً للتسليع ومجالاً خصباً للاستهلاك في كل شيء وأضحت هدفاً لتفريغها من وعيها ومشاعرها وأصالتها وربطها بالمظاهر التي لا تنفعها، فإذا ما استفاقت يوماً ستعثر في داخلها على ألم شديد ووخز ضمير لا يتوقف، وتكون قد نزفت الكثير من لحظاتها المفترض أن تبني فيها وعيها وتخرجه للحياة بلغة زمنية مناسبة.
إن الإنسان الذي يقوم بتعديل قواه النفسية والروحية والأخلاقية العائد إلى ذاته يصححها من الداخل لتنطلق سوية حرة إلى الخارج هو من يخط المسار ويكتب التاريخ اللائق دينياً وسياسياً للمجتمع الديناميكي الحيّ في لحظاته.
على أمل أن نصبح على لحظة تنعش واقعنا المتصحر، سيظل مصيرنا مرهوناً لفقدان الثقة والتوازن ولمزيد من الويلات والندوب والجروح التي تقتات على أمننا وأماننا ودمائنا كما نشهد على فصول مأساتنا كل يوم في كل الميادين.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/04/27