فلسطين.. انتفاضة شعب من جديد
أ.د. حسين سالم مرجين
لا تمر مرحلة من مراحل تاريخ فلسطين إلا ونجد دائما أحداثاً أو مواقفَ مهيبة تجسد قوة وجَسارَة الشعب الفلسطيني في محاولاته الوصول إلى استرجاع حقوقه الوطنية ، (بالرغم من كل المؤامرات والدسائس)، ولا يتجاسر على تلك القوة إلا المنكر للحقائق والمتنكر لها، حيث تنطلق تلك المواقف والأحداث عبر مسيرة متعرجة تستحق كل التأييد والإعجاب، كما وأن لتلك الأحداث والمواقف تأثير قوي على العمق العربي، وفي الوقت نفسه تهز أعماق إسرائيل، كما وتثير اهتمام وأنظار العالم أجمع، ومع وصول ترامب للرئاسة الأمريكية، بدأ بالإعلان عن طرح مبادرة سميت بصفقة القرن، تهدف إلى إنهاء حالة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، (بالرغم من كون الصفقة لا تزال غامضة المعالم)، إلا أنها تهدف بشكل عام إلى توطين الفلسطينيين في وطن بديل، خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنهاء حق اللجوء للاجئين الفلسطينيين في خارج فلسطين، وفي سياق تطور الأحداث والمواقف الفلسطينية على امتداد الفترة اللاحقة ما بعد التهيئة عن الصفقة جاء الرد الفلسطيني سواء على المستوى الرسمي، أم الشعبي برفض تلك الصفقة، ولعلنا لاحظنا كيف تجاسرت السلطة الفلسطينية (في سابقة) وبشكل صريح وبقوة على رفض عمليات التهيئة لتلك المبادرة، في حين جاء الرد الشعبي الفلسطيني ليؤكد لنا مرة أخرى قوة هذا الشعب ( شعب الجبارين ) من خلال مسيرات العودة إلى الداخل الفلسطيني، وليس إلى خارجه، حيث انطلقت تلك المسيرات من عدة مناطق في قطاع غزة في الذكرى الثانية والأربعين ليوم الأرض في :30/3/2018، باتجاه السياج الحدودي لقطاع غزة، ولتعبر عن مرارة الإحباط بعد سنوات طويلة من الترقب وانتظار ما تؤدي إليه التسوية السلمية السياسية التي لم تحقق نتائجها بسبب تعنت إسرائيل ومماطلتها وتراجعها عن تنفيذ التزاماتها.
لقد بينت مسيرات العودة تلك الصورة المهيبة للشعب الفلسطيني الذي لا يزال يستطيب الموت من أجل إحقاق حقوقه، وبناء دولته، ويؤثر الهلكة على استمرار الاحتلال الإسرائيلي، كما برزت في السياق نفسه مواقف وأحداث فلسطينية أخرى تؤكد الرفض الفلسطيني لصفقة القرن المزمع الإعلان عنها، وفشل سياسات أوسلو 1993م بشأن تحفيز المجتمع الفلسطيني لإنهاء حالة الصراع مع إسرائيل، كما حاول البعض تأطيرها وتأصيلها في العقل الفلسطيني والعربي، خاصة في مرحلة ما بعد 1993م، ولعل الطفلة الفلسطينية “عهد التميمي” جسدت استمرار عقلية المقاومة والعزم على استعادة الحقوق الوطنية مهما طال الزمن، ومهما بلغت التضحيات، فوجهت تلك الطفلة إلى الجنود الإسرائيليين صفعات قوية إمام شاشات الكاميرات لتنقل لنا مباشرة وبشكل واضح غير قابل للتأويل بأن العقل الفلسطيني لا يزال ينظر إلى إسرائيل ككيان احتلال ومغتصب لحقوقه الوطنية.
إن السؤال الذي ربما يأتي في سياق الحديث عن تسوية ” صفقة القرن” الأمريكية والمزمع الإعلان عنها خلال الفترة القادمة، هو: إلى أين تتجه المسألة الفلسطينية في المرحلة المقبلة؟
في الحقيقة قبل البحث عن إجابات للتساؤل المذكور، نود طرح عدد من المحددات، التي ربما تساعدنا في الولوج نحو إجابات محددة وواضحة لذلك التساؤل، والمحددات، هي :
-بالرغم من وجود خلافات فلسطينية – فلسطينية، وبشكل خاص بين حركتي فتح وحماس، إلا أن جل القيادات الفلسطينية لا تزال تؤكد بأن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، حيث شاهدنا مواقف وأحداث عديدة يتم فيها التنازل عن بعض المكاسب من أجل توحيد الرؤية الفلسطينية اتجاه بعض المواقف والأحداث الخارجية، وبشكل خاص عندما يتعلق الموضوع بمشاريع تسوية.
-وهذا يؤكد أيضًا بأن ما يجمع الفلسطينيين هو أكثر مما يفرقهم، حتى وإن لاحت في الآفاق بوارد التقسيم والفرقة، فالتاريخ الفلسطيني في الداخل والخارج يؤكد لنا مواقف وأحداث هذه المقولة، حيث إن القيادات الوطنية الفلسطينية قد تتقاتل ضد بعضها أحياناً، وربما تغضب أيضا من بعضها أحيانًا أخرى، لكنها تحت كل الظروف لا تسمح، ولا تقدر على السماح بالتنازل عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، فذلك أكثر مما تحتمل.
-شهدت هذه الفترة تراجعاً عربيا ملحوظاً على صعيد الاهتمام الرسمي بالمسألة الفلسطينية، نتيجة لبروز قضايا أخرى مثل: الصراع مع إيران، ولتضع المسألة الفلسطينية ضمن القضايا الثانوية في نطاق اهتمامات العربية الرسمية.
-تصاعد الدور الخليجي – والسعودي (بشكل خاص) على مستوى السياسات العربية، أدى إلى تغيير بوصلة الصراع، من صراع عربي – إسرائيلي، إلى صراع عربي – فارسي، واعتبار إيران هي العدو الأوحد للنظام العربي والإسلامي ” السني”، مما دفع في الوقت نفسه نحو زيادة التوجه السلمي اتجاه إسرائيل واعتبارها شريكاً مهم في مواجهة إيران.
-تبني الدول الخليجية المبادرة الأمريكية ” صفقة القرن” من خلال إعادة بناء المحور السعودي – المصري، والدفع به نحو تبني الصفقة الأمريكية (الغامضة) للمسالة الفلسطينية، والتسليم بالأمر الواقع تجاه إسرائيل، والنظر إليها كحقيقة قائمة من جهة، واعتبار خيار المجابهة العسكرية معها في حكم الأمر المرفوض، يضاف إلى ذلك اعتقاد المحور السعودي – المصري بأن فرصة ” صفقة القرن” ستقود إلى الحد من السياسة التوسعية لإسرائيل، كما ستؤدي بالضرورة إلى حل واقعي ومقبول نسبياً للمسألة الفلسطينية.
-مطالبة الإدارة الأمريكية وبشكل صريح الدول العربية ( والخليجية بشكل خاص ) بضرورة القيام بدفع تكاليف ترتيبات “صفقة القرن” المزمع طرح تفاصليها خلال الأيام القادمة.
وبشكل عام، فإن ما يعنينا الإشارة إليه في هذا الخصوص هو أن هناك سلسلة من التغييرات الجديدة في السياسة الأمريكية المباشرة وغير مُبطنة تدعو حكام المنطقة (الخليجية- ومصر) إلى السعي نحو القيام بأدوار لتنفيذ صفقة القرن، إضافة إلى قيامهم بدفع تكاليف أي ترتيبات أمريكية في المنطقة، والسماح الأمريكي بإقامة تحالف عربي “سني” – إسرائيلي، موجه فقط إلى محاربة التحالف الإسلامي الشيعي بقيادة إيران.
ويمكن رصد عدد من السيناريوهات الجديرة بالاهتمام، والتي تتناول الآفاق المستقبلية للمسألة الفلسطينية في مرحلة الإعلان الأمريكي عن صفقة القرن ، وهي :
-ستُشكل الإعلان عن صفقة القرن بشكل صريح عن بداية لمرحلة جديدة من مراحل تطور النظام العربي، حيث سيشهد صعود أدوار لبعض الدول الإقليمية ،مثل : تركيا، وإيران في المنطقة العربية، خاصة في ظل توجه المحور السعودي المصري نحو القبول بالصفقة.
-يمكن أن تمثل مصدر قوة للمسألة الفلسطينية وحقوقها الوطنية ،وبالتالي فإنه قد يفتح الطريق أمام انتفاضة شعب لا يزال ينتفض منذ قرن، حيث تعلمنا من تاريخ هذا الشعب بأن أي اعتداء على أي من حقوقه الوطنية سيؤدي بالضرورة إلى انتفاضات مجتمعية، فكانت على سبيل المثال ثورة يافا عام 1921م، وثورة البراق عام 1929م، والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، والانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، والانتفاضة الثانية عام 2000م،والانتفاضة الثالثة، أو انتفاضة القدس عام 2015-2016م وهبة باب الأسباط عام 2017م.
-دفع المحور السعودي – المصري ببعض الشخصيات الفلسطينية الحاضنة لديها لتولي مهام تنفيذ صفقة القرن، مقابل الحصول على الدعم المالي والوجيستي.
-قد يشكل هذا الإعلان الأمريكي محطة مهمة في المشهد العربي على صعيد الاهتمام الرسمي والمجتمعي بالمسألة الفلسطينية بعدما كانت لسنوات ضمن القضايا الثانوية في نطاق اهتماماتهما.
-اتساع الفجوة ما بين السياسات الأمريكية والأوروبية اتجاه المسالة الفلسطينية، وموضوع القدس على وجه الخصوص، حيث لاحظنا وجود تناقض في السياسات والمواقف الأمريكية – الأوروبية، وبشكل خاص مع قيام الإدارة الأمريكية افتتاح سفارتها في القدس.
وختامًا فإن أهم أسباب الغموض التي تعترى المسألة الفلسطينية في هذه المرحلة، هو الافتقار إلى وجود أهداف ومشروع وطني جامع وواضح ومحدد المعالم، إضافة إلى الافتقار لوجود قيادات وطنية قادرة على تغليب المصالح الوطنية على المنافع والمكاسب الشخصية، وأخيراً يمكن القول بأن طبيعة المجتمع الفلسطيني وقدرته على العودة للتعايش بين مكوناته ستساهم في إسقاط جميع التصورات التي تتعارض وحقوقه الوطنية، كما أن القول بأن صفقة القرن الأمريكية سوف تُكرس إسرائيل كدولة ومشروع استيطاني على أرض فلسطين من جديد، كما سيضع أيضًا النهج العربي التسووي ومشاريعه من جديد على كونها تفريطا في المسألة الفلسطينية وحقوقه الوطنية، وكما سيقود إلى إعادة تبلور موقف دولي نحو اعتبار إسرائيل هي المسؤولة عن إعادة المنطقة إلى أجواء التوتر ومظاهر العنف، والأهم من كل ذلك سيقود بالضرورة إلى مرحلة أخرى من مراحل الشعب الفلسطيني المهيبة، وهي انتفاضة شعب من جديد.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/05/31