دبلوماسية المال مزقت الأمة العربية
د. سعيد الشهابي
دبلوماسية المال أصبحت نمطا ليس مقبولا فحسب، بل مطلوبا في العلاقات الدولية، وبذلك حلت محل الاعتبارات الأيديولوجية الأخرى في التعامل بين الدول. وحتى الأمس القريب كان للايديولوجيا السياسية دورها في توجيه علاقات الدول وإقامة التحالفات، ولكن مرحلة ما بعد «الربيع العربي» وما تبعها من ظواهر خصوصا الإرهاب والطائفية والإسلاموفوبيا شهدت تطورا بنيويا على هذا الصعيد. فمثلا كانت مصر محور العمل العربي المشترك عقودا عديدة، ولم تكن تملك المال الذي تشتري به مواقف الدول، لكنها طرحت مشروع القومية العربية الذي جذب الدول العربية الأخرى لمواقفها، وأصبحت الهوية العربية عنوانا للعمل العربي المشترك الذي تصدرته الجامعة العربية.
وطرحت السعودية في مواجهة ذلك مشروع «العمل الإسلامي المشترك» من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي، واستطاعت إحداث استقطاب جديد محوره الروابط الدينية بين أكثر من خمسين دولة في العالم. ولم يكن للمال دور كبير في نشوء تلك المحاور. أما الغرب فكانت علاقاته الدولية تنطلق من شعاراته البراقة: الحرية والديمقراطية، لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفياتي الذي أسس علاقاته على المبادئ الشيوعية والاشتراكية. وكلا المعسكرين عمد لتثبيت أركانه بامتلاك ترسانة عسكرية جوهرها السلاح النووي الذي تم تطويره بعد الحرب العالمية الثانية. وربما كان للمساعدات المالية بعض الدور في كسب الأصدقاء للغرب، إلا أن الانتماء لأي من المعسكرين كان قائما على أساس الهوية الأيديولوجية لأنظمة الحكم. في المرحلة الراهنة تغير الكثير من ذلك. وفجأة أصبح للمال النفطي دور في تأسيس أنماط جديدة من العلاقات بين الدول. وأصبحت دبلوماسية المال متفوقة على الأنماط الأخرى بفاعليتها وتأثيرها السريع وربما المفاجئ أحيانا.
وساهم في تعميق دبلوماسية المال عدد من العوامل أهمها ارتفاع أسعار النفط في العقد الأول من الألفية الحالية بمعدلات غير مسبوقة حيث بلغ سعر برميل النفط إلى أكثر من 120 دولارا.
ثانيها تراجع الأوضاع الاقتصادية في الغرب خصوصا بعد الانهيار في القطاع المصرفي قبل عشرة أعوام، وتصاعد عجوزات الدول ذات النزعة التوسعية وبسط النفوذ السياسي كالولايات المتحدة وبريطانيا.
ثالثها: تراجع دور الايديولوجيا السياسية في الحياة العامة. فغياب الشيوعية والاشتراكية عن المسرح السياسي أما بسقوط محور الاتحاد السوفياتي أو عجز قياداته التاريخية (مثل فيدل كاسترو)، وضمور مشروع عدم الانحياز خصوصا بعد تفكك تشيكوسلوفاكيا التي كان رئيسها، جوزيف تيتو، من بين رواد ذلك المشروع، كل ذلك ساهم في تراجع دور الايديولوجيا في العلاقات الدولية.
رابعها: تراجع الغرب عن مشروعه الديمقراطي ونزوع أنظمته لسياسات الحماية الاقتصادية وجنوح الدولة للتدخل في الحياة العامة، الاقتصادية وعلى مستوى الحريات العامة وتهميش حقوق الإنسان، كل ذلك أسدل الستار على حقبة الحرب الباردة التي لعبت الايديولوجيا فيها دورا بارزا في العلاقات الدولية وظاهرة نشوء المحاور.
خامسها: الرغبة في الإجهاز على مشروع «الإسلام السياسي» بتضافر جهود الغرب مع أنظمة الاستبداد في العالم العربي، الأمر الذي دفع بعض الدول التي كانت رأس الحربة في محاربة ذلك المشروع للتغول والشعور بعظمة مفتعلة وقدرة وهمية على تجاوز كافة الخطوط الحمراء في التعامل مع الدول الأخرى، وكذلك مع شعوبها.
جاءت ثورات الربيع العربي محاولة أخيرة لإعادة التوازن لأمة استضعفها حكامها وفرقوا شعوبها وارتهنوها للإجانب. وهنا تساقطت كافة الايديولوجيات المذكورة، فتضافرت جهود دول الغرب مع أنظمة المنطقة للإجهاز عليها بكافة الوسائل. وهنا تشكل محور جديد مدعوم من الغرب بأجندة معقدة تشمل قضايا جوهرية عديدة. ويمكن تسمية هذا المحور الجديد بـ «تحالف 4+1» (السعودية، مصر، الإمارات والبحرين + إسرائيل).
تضافرت جهود هذا المحور على أربعة محاور: ضرب الثورات العربية قاطبة ومنع التحول الديمقراطي بأي ثمن، استهداف ظاهرة «الإسلام السياسي» بتجلياتها في إيران والحركات الإسلامية ذات المشروع السياسي، تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، والتطبيع مع «إسرائيل». ولتسهيل مهمة أعضاء ذلك التحالف سمح لهم بالعمل خارج «الممنوعات» تحت إشراف إسرائيلي مباشرة، وسمح لها بالعمل السياسي والأمني والاستخباراتي خارج حدودها، خصوصا في الدول المستهدفة من الغرب والكيان الإسرائيلي. ولكي يمكن تحقيق ذلك لا بد من تفتيت العالم العربي وإضعاف دوله الكبرى، مصر والعراق وسوريا واليمن. وهذا ما حدث خلال السنوات السبع الماضية. فلو كانت مصر قوية لما استطاعت السعودية السيطرة على الجامعة العربية ولما تصدرت العمل العربي المشترك ووجهته لخدمة أهدافها. ولو كانت سوريا أو العراق متماسكة لما شعرت دولة الإمارات بهذه العظمة الوهمية التي دفعتها لاحتلال بلدان أكبر منها وأعمق تاريخا وحضارة كاليمن. ولو كانت الجامعة العربية كيانا فاعلا لما استطاعت «إسرائيل» ممارسة عربدتها المكشوفة، بضرب سوريا والسعي لضم الجولان واستقبال الوفود الرسمية والرياضية من دول التحالف المذكور. ولو كان الوضع طبيعيا لما تمكن وزير خارجية البحرين أن يغرد بدعم العدوان الإسرائيلي على سوريا أو غزة.
دبلوماسية المال أوجدت واقعا جديدا غير مألوف. فقد استطاعت إحداث تغييرات سياسية ونفسية في العالمين العربي والإسلامي تحول دون تكرر ظاهرة الربيع العربي، وتخلق قبولا لدى الرأي العام العربي بالواقع المر الذي من تجلياته التطبيع مع الكيان الإسرائيلي وشيطنة الدول العربية والإسلامية المستهدفة مثل إيران وقطر وتركيا وقوى المقاومة. دبلوماسية المال وفرت للإمارات الفرصة لتبني سياسة توسعية غير مسبوقة، واستعداء الدول الجارة مثل سلطنة عمان وقطر والكويت وإيران. دبلوماسية المال الإماراتي والسعودي استطاعت وضع مصر، الدولة العربية الكبرى ذات الحضارة والموقف والأطروحات القومية الجامعة، تحت عباءة حكام الإمارات والسعودية. هذه الدبلوماسية وفرت غطاء دبلوماسيا متينا لهذه الدول لممارسة سياسات قمع غير مسبوقة في المنطقة. فاستطاعت مصر أن تفلت من أية محاسبة أو عقوبة لما اقترفته أجهزة أمنها بحق معارضيها خصوصا من الإخوان المسلمين، وتصدر أحكام الإعدام والسجن المؤبد بالجملة، وتمارس انتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق هائل. وفيما تم استهداف روسيا بدعوى محاولتها الفاشلة لاغتيال جاسوس مزدوج مع ابنته في مدينة سالزبوري البريطانية، لم يتم استهداف عسكر مصر عندما قتل الباحث الايطالي جوليو ريجيني قبل ثلاثة أعوام. هذه الدبلوماسية أرغمت القاهرة على تسليم جزيرتين مصريتين للسعودية بدون اعتراض حقيقي من أحد. كما استطاع تحالف 4+1 إقناع الرئيس الأمريكي بكسر الأعراف الدولية بالانسحاب من اتفاق دولي استمرت المفاوضات بشأنه 12 عاما برغم اعتراض خمسة أطراف أساسية فيه على ذلك الانسحاب. دبلوماسية المال هذه استطاعت تطويع العراق للتطبيع مع دول ساهمت مباشرة بدعم الإرهاب على أراضيه، واستخدمت المال للتأثير على سير الانتخابات الأخيرة وربما تشكيل الحكومة المقبلة.
ولكن هل هذه الانجازات مهيأة للبقاء والاستمرار؟ الأمر المؤكد أن الدول العربية الأربع في تحالف 4 +1 لا تملك قدرات ذاتية على الاستمرار بالدور الذي تمارسه في الوقت الحاضر، وهو دور مدعوم من قبل «إسرائيل» وأمريكا فحسب. فسياسات التوسع التي تنتهجها السعودية والإمارات سوف تصطدم بمصالح الدول الغربية من جهة، وتؤثر سلبا على مصالح الدول العربية والإسلامية الكبرى من جهة أخرى.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/06/04