رمزية الكرة في مونديال هيلسنكيْ من الفائز في قمة ترامب-بوتين
د. هشام أحمد فرارجة
منتشيا بنجاحه الباهر في تنظيم واستضافة مونديال كأس العالم لهذه الدورة، يبدو أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين لم يرق له أن لا يتصدر فريق بلاده لكرة القدم كافة الفرقاء المشاركين، بحمل الكأس، فأخذ على عاتقه أن يسدّد ضربات هادفة في مرمى نظيره الأمريكي، الرئيس دونالد ترامب في هيلسنكي. لم يجد بوتين هدية أكثر ملاءمة يقدمها لترامب أثناء مؤتمرهما الصحفي المشترك في هيلسنكي من كرة القدم. فبينما اعتقد ترامب أن بوتين يهديه تلك الكرة تقديرا له على تهنئته إياه لإتمام مونديال 2018 بتفوق وامتياز، يبدو أن هذه الهدية تحمل في طياتها من معاني أكثر مما للموقف في تلك اللحظة أن يحتمل. ففي التفاعلات الدبلوماسية، لكل إيماءة دلالاتها، ولكل تنهيدة مقاصدها. فكيف يا ترى بهدية ككرة القدم يقوم زعيم أحد البلدين المتضادين بركلها في شباك الآخر، وكأن بوتين كان يعرف مسبقا، أو في حالة انتظار لاغتنام اللحظة المناسبة لتسديد هدف الفوز في شباك ترامب.
قد يُنظر لأمر تقديم هذه الهدية نظرة عادية في ظروف طبيعية، أو شبه طبيعية. ولكن المرحلة التي عقدت فيها قمة هيلسنكي استثنائية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فهل يا ترى كانت هذه الكرة الهدية تعبيرا عن مشاعر الصداقة الآخذة في التشكل بين بوتين وترامب؟ أم أن هذه الهدية عبرت عن شعور بوتين بالنصر المحقق على خصمه الأمريكي الذي كان أكثر فاعلية وفتكا بحلف شمال الأطلسي، بحكم تصريحاته ومواقفه، وفي أحداث تشقق في المجتمع الأمريكي بشكل غير مسبوق، لم تستطع الآلة الروسية، ومن قبلها السوفيتية أن تحدثه بهذا العمق؟ أم أن بوتين كان يقصد من تقديم هذه الهدية أن يرمز إلى قدرته على اللعب بالرئيس الأمريكي، تماما كما يلعب اللاعب المحترف بالكرة؟
فالرياضة والسياسة بالنسبة لبوتين متلازمتان. فهو ممن يؤمنون أن العقل السليم في الجسم السليم. وهو يمارس قناعاته من خلال بناء شخصيته كلاعب محترف في الجودو. وهو أيضا يعرف أن نظيره الأمريكي يقف على أرضية واهية مهتزة، كالرمال المتحركة، بحيث لم تتطلب هزيمته في مونديال هيلسنكي سوى ضربة واحدة، بهدف محقق للفوز.
بالفعل، قد يكون من الاستحالة بمكان أن يقدم المرء على إجراء تحليل سياسي لما يترتب على قمة هيلسنكي من أبعاد، دون اللجوء الاضطراري إلى استخدام مثل هذه الاستعارات والكنايات. فلا أشبه من التفاعل الذي حدث في هيلسنكي من لعبة لكرة القدم، حيث المراقبون والمحللون هم الحكام، وعامة المتابعين هم الجمهور.
لم تكن هناك حاجة لأية ضربات جزائية لحسم من هو الفائز، حيث لم يكن هناك تكافؤ في اللعب، مطلقا. بإقرار الأمريكيين، جمهوريين وديمقراطيين، ليس هناك مجال للشك بأن بوتين قد خرج من هيلسنكي وعاد إلى بلاده محتفيا بنشوة النصر أكثر مما شعره بعد إسداله الستار على مونديال 2018، بينما لا يعلم إلا الله بأية حالة نفسية كان ترامب أثناء عودته في الطائرة إلى واشنطن.
فبالإضافة إلى قيام ترامب بالطعن بأجهزة الاستخبارات الأمنية والتشكيك بقدرتها على جمع المعلومات فيما يتعلق بإمكانية تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كان ترامب قد شهّر خلال المؤتمر الصحفي مع بوتين بمدير الاستخبارات القومية، دان كوتس. وعلاوة على ذلك، كان ترامب قد وجّه سهامه نحو الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، واصفا الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، بالعدو. وقد كان أيضا قد وصف الإعلام الأمريكي بأعداء الشعب.
وعليه، فان الجدل المحتدم في الولايات المتحدة بخصوص أداء ترامب أثناء مؤتمره الصحفي مع بوتين في هيلسنكي غير مسبوق وغير معهود، بالفعل. خلافا لأنماط المناكفات السياسية الحزبية التي تزداد وتيرتها في الارتفاع كلما تم الاقتراب من إجراء الانتخابات، يمكن القول، وبدون مبالغة قط، أن عاصفة عارمة تجتاح الولايات المتحدة الآن، والتي يمكن وصفها بالحرب الأهلية السياسية. هناك حالة من السخط المنقطع النظير التي يعبر عنها مسؤولون ومحللون وأصحاب رأي كثيرون، تعليقا على ما يعتبرونه عدم ارتقاء ترامب لمستوى الحدث أثناء لقائه ببوتين، خاصة أثناء انعقاد المؤتمر الصحفي، حيث بدا ضعيفا، مهزوزا. حالة السخط هذه كانت قد أطلت برأسها عشية انعقاد مؤتمر القمة عندما تم الإعلان عن توجيه لوائح اتهام رسمية بحق اثني عشر ضابطا في المخابرات الروسية بحجة قيامهم باختراق أجهزة حاسوب اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، وخاصة العائدة لمنافسة ترامب في الانتخابات الرئاسية، هيلاري كلينتون. تبدو هذه العاصفة أكثر قوة من كل ما سبقها من زوابع هناك وهناك، بحيث يمكن أن تطيح بأسس النظام السياسي الأمريكي، كما هو معروف.
لم تقتصر الهجمات الموجهة نحو ترامب على أركان الحزب الديمقراطي ومناصريه من محللين وكتاب، وإنما تصدرها أقطاب الحزب الجمهوري من ذوي الخبرة العريقة والباع الطولى في صناعة القرار. فعلى سبيل المثال، عبر زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ميكانال عن رفضه للطريقة التي تعامل فيها ترامب مع بوتين. وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا، جون ماكين عبّر عن عميق استيائه الناتج عن أداء ترامب. وأما أحد مستشاري ترامب، نوت غنغرتش، فقد اعتبر أداء ترامب أكثر أخطائه فداحة منذ تسلمه الرئاسة. وميت رامني، المرشح السابق للرئاسة عام 2012، وصف أداء ترامب المخزي والهدام للمبادئ الديمقراطية. وذات الشيء يمكن أن يقال عن أصحاب الرأي والمحللين. فأحد كبار مقدمي البرامج في قناة السي ان ان، آندرسون كوبر وصف أداة ترامب في المؤتمر الصحفي ب”المخزي”. وآخرون وصفوه ب”المعيب” و”الغريب” وب”قمة الاستسلام” وب”قمة الموت لقيادة أمريكا” للعالم.
ولكن ربما كانت أكثر الانتقادات حدة تلك التي وصلت إلى حد اتهام ترامب بالخيانة وارتكاب الجرائم الكبرى، وبأنه عميل للمخابرات الروسية. فمدير الاستخبارات الأسبق، السي اي ايه، جون برانن كان في غاية الوضوح والغضب في آن واحد معا عندما أطلق صرخة للجمهوريين، منبها إياهم إلى أن ما قام به ترامب يرقى إلى مستوى الجرائم الكبرى ويصل إلى حد الخيانة. وأحد أهم كتاب أعمدة الرأي في صحيفة نيويورك تايمز، توماس فريدمان خرج عن المألوف، محذرا الجمهور الأمريكي بأن ترامب مفيد للمخابرات الروسية، الأمر الذي يعني أنه يمكن أن يكون عميلا لها.
من الواضح أن هذه العاصفة العارمة ليست في طريقها للخفوت، وإنما للتصاعد مع الوقت، إلى حد يمكن أن يؤدي إلى انفجار غير مسبوق في الساحة السياسية الأمريكية. يبدو أن أحد أوائل معالم هذا الانفجار يتمثل في الإعلان عن استقالة المجلس الاستشاري للشؤون الداخلية في وزارة الأمن القومي، احتجاجا على سياسة ترامب المتعلقة بالهجرة. وليس من المستبعد أو المستغرب أن تتبع استقالات أخرى جماعية في مناصب أكثر حساسية، في الأيام القادمة، تعبيرا عن حالة السخط التي تجتاح الأجواء العامة في الولايات المتحدة، احتجاجا على أداء ترامب في هيلسنكي. ولذلك، لم يكن مفاجئا أن ترامب، خلافا للعادة، بدأ يحاول ترقيع بعض عباراته وتصريحاته ومواقفه المعلنة، خشية مما تخبئه له الأيام من مفاجآت حقيقية. وفي الغالب، سوف تتمحور إحدى محطات الصراع السياسي المستميت حول تناول الكونغرس لموضوع إقرار تعيين مرشح ترامب للمحكمة العليا الأمريكية، بريت كافانو. فالمظاهرات والاحتجاجات كانت قد اندلعت منذ اللحظة الأولى لترشيح هذا القاضي للمحكمة العليا في الأسبوع الماضي. ولأن الأجواء الآن في غاية السخونة، وكون الشارع الأمريكي أكثر احتقانا من أي وقت مضى، ولان ترامب، في الغالب، يشعر بأنه محشور في الزاوية، فان البيئة العامة غارقة بكافة المكونات والمواد الكفيلة برفع مستوى التوتر، ولربما الصدام. ومن الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى وجود انقسامات حقيقية داخل الإدارة الأمريكية نفسها، حيث وزير دفاع ترامب، جامز ماتيس، يخالف ترامب الرأي كلية فيما يتعلق بالتفاعل مع روسيا. وماتيس ليس وحيدا، بالتأكيد.
ومع اقتراب الانتخابات التشريعية النصفية في شهر تشرين الثاني المقبل، فان حالة التوتر تزداد سوءا. ومن يدري إذا ما كانت سوف تنتقل إلى الشارع الأمريكي بسخونة أشد. فترامب ليس من النوع الذي يستسلم. بل يتوقع منه أن يبقى يجابه العاصفة حتى الرمق الأخير، بغض النظر عن الأدوات المستخدمة والثمن المدفوع. وهنا، لا بد من لفت الانتباه إلى أن ترامب قد يدفع بمؤيديه وأنصاره، وان بطريقة غير مباشرة، لتأزيم الوضع بشكل ملحوظ على المستوى الشعبي والاجتماعي، حيث ما زال يتمتع بدعم بعض القطاعات منغلقة الذهن كلية في بعض الأوساط، تلك التي وصفها في إحدى خطاباته كمرشح، بأنها سوف تبقى تدعمه حتى لو قام بإطلاق النار على شخص ما في شارع رقم 5 في نيويورك.
لا أحد يستطيع أن يستقرئ المشهد بدقة تامة في الولايات المتحدة فيما هو قادم من أيام, حيث الأحداث متسارعة ساعة بعد ساعة. ولكن من الواضح أن الأيام القادمة سوف تكون حبلى بالكثير من التطورات، ولربما التدهورات، خاصة وأن أداء الرئيس الباهت أثناء تفاعله من زعيم الدولة التي تعتبر الأكثر خصومة للولايات المتحدة اعتبر مسألة أمن قومي من الدرجة الأولى، حتى عند أولئك الذين لم يجهروا بذلك علانية أمام وسائل الإعلام.
ورغم ما يمكن أن يحيط بما تخبئه الأيام المقبلة من ضبابية، إلا أن أمرا واحدا ووحيدا هو في عداد المؤكد، والذي مفاده أن الحياة السياسية، على الأقل، في الولايات المتحدة، لم تعد كما كانت عليه قبل هيلسنكي. إنّ حقبة جديدة، بمواصفات مغايرة، آخذة في التشكل، حقا. وهذه الحقبة، بالتأكيد، لن تتسم بكون الولايات المتحدة هي قائدة العالم الحر وداعية الديمقراطية، كما عرفت منذ الحرب العالمية الثانية. لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما قد تلجأ الولايات المتحدة إلى استخدامه من أدوات لتضميد جراحها. ولكن من المعروف أن الإمبراطوريات عندما تنحسر داخليا، في الغالب تبدأ عملية تآكلها، وتراجعها، وعزلتها. فعندما يكتب وزير الخارجية الألماني، هايكو ماص أنه لم يعد ممكنا الاعتماد على البيت الأبيض، فهذا يؤذن بميلاد حقبة جديدة، بميزان قوى جديد، ولاعبين جدد، يتميز فيها بوتين بمهارة عالية وقدرة على المناورة وتحقيق الانجازات.
ولا شك أن ترامب سوف يبقى يذكر ويتذكر طيلة عمره هدية الكرة التي سدّدها بوتين في شباكه. ولا شك أنّ مشجعين كثيرين سوف يسعون جاهدين لمساعدة بوتين على ترجمة فوزه في هيلسنكي إلى مزيد من الانجازات الإضافية على المسرح الدولي, وذلك لما شاهدوه من مهارة روسيا عالية. فالصين، والاتحاد الأوروبي، وكوريا الشمالية، وكثيرون غيرهم ليسوا بالمراقبين الذين لا يعنيهم الأمر. هم أيضا عازمون العزم على النيل من ترامب، ردا على صلفه، وعنجهيته ونرجسيته التي لا تقيم حدودا لأحد.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/07/19