سياسة العقوبات الأميركية
زياد حافظ
عدد من الدول والقوى السياسية في الإقليم يتعرّض لعقوبات تفرضها الولايات المتحدة بشكل أحادي تُخالف بها المواثيق الدولية والأعراف ناهيك عن الأخلاق. والعقوبات التي تفرضها على كل من الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا والمقاومة في لبنان دليل إضافي على ضُعف يعبّر عن عجز في السياسة لإقناع الدولتين والمقاومة لتغيير خياراتها كما هو دليل على عدم إمكانية إخضاعها بقوّة السلاح.
لكن هناك مَن يعتقد في الولايات المتحدة وفي الدول العربية التابعة لسياساتها أن العقوبات فعّالة وتستطيع إخضاع الحكومات والقوى المتمرّدة على الإرادة الأميركية. والعقوبات المفروضة هي بطبيعتها جماعية وتهدف إلى إثارة نقمة شعبية ترتدّ على الحكومات، فتجبرها إما على تغيير سياساتها أو على الرحيل.
فعّالية العقوبات تتوقّف على جهوزية الدول والقوى المستهدفة على التعامل معها. فبالنسبة للجمهورية الإسلامية في إيران هناك رأي سائد في الولايات المتحدة وبعض الدول العربية أن المشهد الاقتصادي الإيراني هشّ للغاية ولن يصمد أمام خشونة وقسوة العقوبات. لا نعتقد أن ذلك التقدير دقيق وفي مكانه. صحيح أن المشهد الاقتصادي الإيراني يشير إلى صعوبات كبيرة لكن بالمقابل نُذكّر أن هناك حصاراً
مفروض على الجمهورية الإسلامية منذ قيامها من قبل الولايات المتحدة والدول التابعة لها في الإقليم. وبالتالي فإن صمود الجمهورية الإسلامية خلال أربعة عقود دليل على قدرة على التكيّف مع الحصار. هذا لا يعني أن كل شيء هو على ما يرام. فهناك ضيق اقتصادي يعود إلى عوامل خارجية وداخلية في آن واحد تستوجب بحثاً منفصلاً خارج المساحة المتاحة في هذه المداخلة. فالتركيز يكون على العامل الخارجي في عدم استقرار سوق النفط الذي يؤثّر على الواردات التي تشكّل حوالي 80 في المئة من واردات الدولة في الحد الأدنى أو إلى إغلاق السوق النفطي بوجه إيران لخنقها. وبالتالي يصبح الانكشاف تجاه النفط مصدر ضغط على الحكومة الإيرانية. فهدف العقوبات هو تجفيف وجهات التصدير لإيران عبر تهديد كل مَن يتعامل معها.
أما تداعيات العقوبات على إيران فقد تتعلّق بمشاريع الاستثمارات الجديدة التي لن تتوقف في رأينا، بل قد تتباطأ حتى ينجلي الموقف السياسي. بعض الشركات أعلنت التزامها بالعقوبات وبادرت إلى إيقاف نشاطاتها. بالمقابل علمنا أن هناك مساعي للاستمرار بالتعامل مع الجمهورية الإسلامية عبر شركات لا علاقة تجارية أو مالية بالولايات المتحدة، ما يشكّل تحايلاً على الإجراءات الأميركية. لكن كل ذلك يقع في خانة المستقبل الذي تؤثر فيه عوامل عدّة خارج سيطرة الإدارة الأميركية. أما في المرحلة القصيرة فالتركيز هو على الصدمة النفسية التي يشكّلها تدهور الريال الإيراني والتي تراهن عليها الإدارة الأميركية ومن يتبع سياساتها. أما على صعيد النفط فالموضوع أكثر صعوبة بالنسبة للإدارة الأميركية.
فإذا ما دقّقنا في الموضوع النفطي الذي يشكّل نقطة ارتكاز في منظومة العقوبات الأميركية نجد أن المستورد الأكبر للنفط الإيراني هو الصين التي تشكّل حوالي 30 في المئة من إجمالي الصادرات الإيرانية. والصين أعلنت أنها غير ملتزمة بالقرارات الأميركية. أضف إلى ذلك، فإن التحوّل السياسي في باكستان التي هي بحاجة إلى النفط تجعل من باكستان سوقاً طبيعياً للنفط الإيراني. فالموقف الباكستاني السلبي المستجدّ من السياسات الأميركية قد لا يكون ظرفياً بل تحوّلاً استراتيجياً مما يُضعف في آخر المطاف فعّالية الضغوط على إيران.
وعلى شمال غرب إيران هناك أيضاً تركيا التي لا تنتج النفط. وهي بحاجة له وتشكّل حوالي 10 في المئة من الصادرات الإجمالية الإيرانية. هذا وقد أعلنت تركيا أنها غير ملتزمة بالقرارات الأميركية خاصة في مناخ متوتّر في العلاقات بينهما ما يجعل تركيا متنفّساً آخر للصادرات النفطية الإيرانية. فلا ننسى أن سياسة إيران بالتنسيق مع روسيا تسعى إلى زيادة التبادل التجاري الإجمالي التركي إلى 300 مليار دولار مقارنة مع ما هو عليه الآن بحوالي 100 مليار دولار. أي روسيا وإيران ستشكّلان ثلثي التجارة الخارجية التركية بعد تنميتها ما يكرّس التحوّل الاستراتيجي التركي المرتقب.
أما الهند، وهي دولة مؤسّسة في مجموعة البريكس فهي تستورد ما يوازي 19 في المئة من إجمالي الصادرات الإيرانية وبالتالي إذا كانت سياسة البريكس مواجهة القرارات الأميركية فإن الهند ستجد صعوبة في الخروج عن ذلك التوجّه وإن كان الدور الباكستاني المرتقَب المتقارب مع إيران قد يشكّل مصدر تنافس إضافي مع جاراتها الشرقية.
يبقى موقف الاتحاد الأوروبي الملتبس حتى الساعة. فليست كل الدول الأعضاء على استعداد لمجابهة الولايات المتحدة، كما أن هناك دولاً وازنة طفح الكيل عندها من سياسات الولايات المتحدة كألمانيا. حتى الساعة ليس هناك من جديد ولكن نعتقد أن العلاقة مع إيران هي حاجة أوروبية أكثر مما هي حاجة إيرانية من دون إنكار أهمية الاستثمارات الأوروبية في الاقتصاد الإيراني. فأوروبا بحاجة إلى أن تكون حاضرة في دولة لها موارد تّقدّر بأكثر من 21 تريليون دولار وفقاً لتقارير عدة إضافة إلى احتياجاتها في الطاقة النفطية والغازية.
هذه المقاربة السريعة للبعد النفطي والتجاري الإيراني تجعل فعّالية العقوبات محدودة على ذلك الصعيد وإن كانت ستكون مؤلمة ولكن غير قاتلة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن بنية الاقتصاد الإيراني تشير إلى تنوّع متزايد حيث القطاع الزراعي يشكّل حوالي 10 في المئة من الناتج الداخلي وقطاع الصناعة حوالي 36 في المئة بينما قطاع الخدمات يشكّل 55 في المئة من الناتج الإجمالي المقدّر بـ 435 مليار دولار. لكن هذه الأرقام الكلّية لا يتكلّم عنها الإعلام الغربي أو العربي التابع بينما يتمّ التركيز على الانهيار المصطنع لسعر صرف الريال الإيراني تجاه الدولار كما تفيد تقارير موقع بلومبرغ، وسي أن بي سي، وفورين بوليسي على سبيل المثال. والتركيز يُبرز نسباً قياسية من الانخفاض ليوحي حالة الإفلاس المرتقب. وهذه التقارير مبرمجة ومنسّقة تحمل الكثير من الرغبات والقليل من الموضوعية ما يجعلها غير ذات جدوى بل ميزاناً فقط للمزاج الغربي.
فهنا أيضاً محاولة للتضليل. فسعر صرف العملة الوطنية يعكس أساساً انكشاف الاقتصاد الوطني تجاه الخارج عبر ميزان تجاري سلبي، أو ميزان تجاري سلبي في ميزان المدفوعات، أو عن دين خارجي مستحق، وجميعها تصبّ في طلب متزايد للدولار. لكن الأرقام التي تبرزها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تشير إلى أن الميزان التجاري الخارجي الإيراني إيجابي، أي أن الصادرات تفوق الاستيراد بـ 20 مليار دولار. تفيد أيضاً الأرقام أن ميزان الحساب الجاري في ميزان المدفوعات والذي يعبّر عن الدخل الخارجي الصافي لإيران أنه أيضاً إيجابي بمقدار 216 مليار دولار لعام 2017 وزيادة عن عام 2016 بمقدار 4 مليار دولار. أي هنا أيضاً تدفق من النقد الخارجي كدخل وليس كقروض أو ديون. أما ميزان المدفوعات العام فلم يعلن تقرير وكالة الاستخبارات المركزية عن الرقم ولكن لاحظنا أن قيمة الاحتياط في النقد الخارجي مستقرّة حوالي 133 مليار دولار.
سردنا هذه الأرقام بشكل سريع لتبيان أن المشهد الاقتصادي الإيراني لا يبرّر أي هبوط لسعر الصرف، لأن الطلب على الدولار للاحتياجات الاقتصادية محدود ومرتبط بما أشرنا إليه أعلاه. إذن، هبوط سعر الصرف يعود إلى المضاربة التي هدفها ضرب الاستقرار الداخلي والتأثير على نفوس الإيرانيين ليُقبِلوا على الهروب من العملة الوطنية. لكن حسابات الحقل لم تكن مطابقة لحسابات البيدر بمعنى أن القيمة الشرائية للعملة الوطنية أي الريال الإيراني ما زالت تحافظ على مستواها في الداخل الإيراني وأن الهبوط الخارجي تأثيره محدود، بل قد يتحوّل حافزاً للصادرات الإيرانية. غير أن بعض الإجراءات كالحظر على استيراد بعض السلع موقع ميدل ايست اونلين أشار إلى 1300 سلعة أدّى إلى إضراب في البازار في طهران احتجاجاً على ذلك. لسنا في إطار الدخول في تقييم الإجراءات التي اتخذتها أو التي قد تتخذها السلطات في إيران والتي قد تثير بعض نقط الاستفهام، لكن ما يهمّنا التركيز عليه هو أن الهجوم على الريال هو لأسباب سياسية فقط وليس لغرض آخر. ما يعزّز تقديرنا هو أن حجم الدين العام الإجمالي المكفول في إيران لا يتجاوز 61 مليار دولار أي 14,2 بالمائة من الإنتاج الداخلي، أي بمرتبة 175 في العالم لبنان في المرتبة الثالثة بـ 142 بالمائة بعد اليابان بـ 223 بالمائة واليونان ب 180 بالمائة!!! . غير أن الشق الخارجي للدين العام الإيراني لا يتجاوز 11 مليار دولار، أي 3 بالمئة من الناتج الداخلي، ويأتي في المرتبة 112 في العالم. أي ليس هناك أي مبرّر لاعتبار الاقتصاد الإيراني في الحضيض أو حتى في حالة ضيق تستدعي مراجعات هيكلية! وإذا أضفنا عدم وجود ثقافة الإسراف التي تؤكّدها إحصاءات وكالة الاستخبارات المركزية فمستوى المدّخرات الوطنية الإجمالية في إيران لعام 2017 هو 41,5 بالمائة من الناتج الإجمالي، وهو السابع في العالم بعد سورينام 50 بالمائة وقطر 48,8 بالمائة والصين 45 بالمائة، وهي زيادة عن عام 2016 بخمس نقاط. هذا يعني ثقافة الإنفاق الاستهلاكي الذي يستنزف الاقتصادات ملجومة ما يخفّف من الطلب على الدولار.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن حوالي 60 بالمائة من الاقتصاد الوطني بيد القطاع العام، فذلك يعني أن القدرة على السيطرة المباشرة لمجريات الأمور على الصعيد الداخلي كبيرة، خلافاً لما هو عليه في تركيا. فالأخيرة اقتصادها بيد القطاع الخاص ومنكشف إلى حد كبير تجاه الخارج، حيث الحكومات التركية المتتالية منذ بداية الألفية اتبعت سياسة الاقتراض الخارجي واللجوء إلى الاستثمار الخارجي لتفعيل التنمية الداخلية. في هذه الحال قد يكون تدهور سعر الصرف لليرة التركية أكثر أذى من إيران وإن قد يكون حافزا أيضاً بدوره للتصدير التركي وللسياحة الوافدة. فالوضع مختلف في الجمهورية الإسلامية في إيران من ناحية الانكشاف تجاه الخارج وفعّالية المضاربة قد تكون محدودة، إذا تمّ تجفيف مصادر الريال الإيراني خارج إطار النظام المؤسّسي المالي الإيراني.
انخفاض الريال يعود أساسا للمضاربة ولأهداف سياسية واضحة. فعلى فترة سنوات عدّة تمّ تكديس الريال الإيراني لدى «شركاء» تجاريين مع إيران لمثل هذا اليوم. وهذا السيناريو هو نفسه الذي استعمل في الهجوم على الليرة السورية وللأغراض نفسها ولم تنجح المحاولة آنذاك في تحقيق أهدافها ولا نعتقد أنها ستنجح اليوم رغم الزعيق الإعلامي المبرمج. فالمسألة أولاً وأخيراً مسألة سياسية بامتياز.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/08/13