جهاز الهيئة بحاجة للمراجعة
د. هتون أجواد الفاسي
لا أدري من أين أبدأ وأنا أشعر أني أعيد وأكرر بأسى وغضب، وكنت أعتقد أني سبق وسطرت كلاماً بليغاً يدمي القلوب ويحرك الضمائر بحثاً عن الإنصاف والعدالة، لأجد أني لم أفعل شيئاً وكذلك لم تفعل عشرات بل مئات الأقلام التي وضعت الحجج الدامغة حول تعديات أحد أجهزة الدولة، ألا وهو "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". فهذا الجهاز الذي تأسس منذ تأسيس الدولة لكي يساند في شؤون الحسبة وضبط المخالفات والآداب العامة، كل خطأ يقع فيه ينقلب إلى رحمة وتجاوز يُصنف اجتهاداً خاطئاً يُحسب لمقترفيه كأجر واحد. تثبت الأحداث يوماً بعد يوم أنه لا أمل في أن يعتدل حال موظفي الهيئة أو أن يعرفوا حدودهم أو أن تنفذ القوانين التي تحفظ للناس حقوقها من تعدياتهم غير المسؤولة. مع العلم بأننا نتحدث هنا عن جهاز حكومي وليس هيئة منزلة من السماء منزهة عن الخطأ. جهاز حكومي من حق المواطنات والمواطنين مساءلتهم كل حين كلما أخطأوا. وكما كل جهاز حكومي بحاجة إلى المراجعة وإعادة الهيكلة وبعد أن استقرت الدولة ومؤسساتها الأمنية والشرطية والبلدية التي أصبحت تغني عن دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن تلك من تكفلت رسمياً بهذه الأدوار.
وعلى الرغم من كل التصريحات الموزونة التي يلقيها مسؤولوها الكبار، لكن من الواضح أن سيطرتهم على الأفراد فيها بعض المحدودية لاعتبارات كثيرة بينها درجة العلم والفقه، كما فيها غياب القوانين الواضحة التي تحفظ حقوق المواطنات والمواطنين وحرياتهم الخاصة، وغياب تطبيق العقوبات الرادعة. وأؤكد هنا على "الرادعة" التي تفتقد إليها أحكام عقوبات أفراد الهيئة، إذا تمت إدانتهم، وهو نادر الحصول. ومن العقوبات "الرادعة" نقل الأفراد المحكومين، أو تحويلهم إلى عمل إداري. أي أن الجهاز يعاقب مناطق أخرى بنقلهم إليها. فأي عقاب "رادع" هذا؟.
طبعاً أنا في هذه المقدمة الطويلة أحيل إلى القضية التي أثارت الرأي العام الأسبوع الماضي مع اعتداء أحد أفراد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على فتاة عرفت بفتاة النخيل مول، بمطاردتها في الشارع لمدة نصف ساعة لاتهامها بأنها لم تغط وجهها ولم تركب في سيارة الهيئة (وفق تصريح صديقتها التي استطاعت أن تفلت من متابعة عضو الهيئة)، وانتهى الأمر بإلقائها أرضاً أمام جمع من الرجال مما أدى إلى الكشف عن إحدى ساقيها حتى تصدى له أحد رجال الأمن الغيورين ليوقفه عند حده ويشهد عليه.
ما حدث لا يصدق كما لم تُصدق من قبل القفزة الطرزانية التي قام بها أحد الأعضاء الآخرين على الرجل البريطاني وزوجته في سوق آخر العام الماضي، وكما لم تصدق المطاردات المتكررة لرجال الهيئة في سياراتهم الجديدة الرباعية الفارهة التي تمكنهم من سرعة اللحاق بمن شاء وكيف شاء ولو أدى ذلك إلى انقلاب مركباتهم ومقتلهم كما حدث في بلجرشي، تبوك، الباحة، المدينة، الرياض وغيرها وغيرها، لولا أن صار لدينا مصدر حي جديد يشهد على هذا السلوك الذي كان في السابق يُحكى والآن يُشاهد.
المؤلم في الأمر هو نتاج ما يجري، النتاج عبارة عن تبرئة ودفاع مقيت عن سلوك مريض. وتُترك، لاسيما النساء، للضياع في غياهب المحاكم والبحث عن حقوقهن ما بين حق عام وحق خاص دون أن يصلن لنتيجة، وهنا أشير بالتحديد إلى ضحية بلجرشي التي تابعت عكاظ قضيتها (24/12/2015) بعد أربع سنوات من مقتل زوجها وبتر يدها وتبرئة الهيئة والدورية وإدانة الجسر، ثم تركت بلا عائل وحتى بلا حق كإحدى المنضمات إلى ذوات الاحتياجات الخاصة.
مع العلم بأنه نادراً ما تصل إلى الإعلام أو إلى وسائل التواصل الاجتماعي القصص الخاصة بالنساء المقيمات ممن يتم التعدي من قبل بعض رجال الهيئة عليهن بشكل استفزازي في وجودهن أيضاً في فضاء الأسواق والمكان العام، مستغلين الأوضاع القانونية للمقيمات والمقيمين والتي تجعلهم دوماً في وضع أضعف من المرأة المواطنة، فأول ما يطلبه عضو الهيئة من سيدة غير مواطنة كاشفة الوجه أن تغطي وإن لم تفعل يمكن أن يستوقفها وأن يطلب بطاقتها ثم يطلب محرمها ثم يحاول الاستيلاء على جوالها إذا اشتبه أنها تصوره وتصبح في حال لا تدري لماذا استوقفت فيه أساساً ولماذا يلاحقها ويهددها ويمنع المحلات من البيع لها، وهل من حق هؤلاء الأعضاء المطالبة بكل هذه الأِشياء.
كل هذه تجاوزات لا يصل ربعها إلى الإعلام وإلى المسؤولين ولكن السؤال الرئيس هو، هل نحن بحاجة لمن يقودنا بالعصا ويلاحقنا في كل مكان عام ويعظنا بالقوة ويدعونا إلى الرشاد؟ في اعتقادي واعتقاد الكثيرين ممن كتبوا قبلي، أن جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح من الأجهزة التي تحتاج مراجعة لدورها ومهمتها وفائدتها وربما لوجودها وقد أنعم الله علينا بدين يقوم على التقوى في الخفية والعلن، دين بلادنا هي مهده، وتعاليمه نرضعها مع حليب أمهاتنا. دين لم يأت إلا بمعجزة الكلمة لأن البشرية وصلت إلى مرحلة النضج العقلي الذي لا تحتاج فيه إلى المعجزات المادية أو الوصاية عليها، ولولا ذلك لما انتشر الإسلام شرقاً وغرباً ولاقى هوى ولبى حاجة في قلوب شعوب العالم لم يجدها في سواه. لم تكن مراقبة السرائر والحريات الخاصة من أدوار هذا الدين السمح، لم يعمد الرسول صلى الله عليه وسلم قط إلى أن يفتش على الصلاة أو على الناس وقد قال سبحانه وتعالى "ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً".
جريدة الرياض
أضيف بتاريخ :2016/02/14