حين يستبدل حكم القانون بالانتقام
د. سعيد الشهابي
الضربات الأمنية التي وجهت للحركات السياسية المعارضة خصوصا الإسلامية منها بعد الربيع العربي غير مسبوقة في التاريخ المعاصر من حيث القسوة والشمول والإصرار. وما يزيدها إيلاما هذه المرة عدد من الأمور: أولها تراجع دور العمل الدولي المشترك في مجال حقوق الإنسان وترويج المشروع الديمقراطي، ثانيها: نزوع أمريكا نحو سياسة الانعزال والتفرد، بالإضافة لردود فعلها بعد حوادث 11 أيلول/سبتمبر التي دفعتها للتراخي هي الأخرى في تلك المجالات وتهميش موقع حقوق الإنسان في سياساتها. ثالثها: تبلور تحالف إقليمي يضم السعودية والإمارات ومصر و«إسرائيل» ويدعمه التحالف الأنكلو ـ أمريكي يتصدى لكافة الظواهر المقلقة للغرب خصوصا التيارات الإسلامية المعتدلة والديمقراطية. رابعا: تزامن ذلك كله مع التراجع الاقتصادي الغربي والمشروع الرأسمالي الذي أصيب بانتكاسة كبيرة بعد أزمة المصارف الغربية قبل عشرة أعوام.
خامسا: ارتفاع أسعار النفط بمعدلات غير مسبوقة، الأمر الذي وفر لدول مثل السعودية والإمارات عائدات كبرى ساهمت في تقوية موقفها إزاء الغرب الذي يعاني من أزمات اقتصادية وسياسية متواصلة.
هذه الأمور مجتمعة ساهمت في توفير ظروف القمع غير المسبوق الذي قاده التحالف الإقليمي المذكور الذي اصطلح على تسميته «قوى الثورة المضادة». وكان من نتيجة ذلك صعود ظاهرة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي الأمر الذي وفر للإسرائيليين الفرصة لاقتحام العالم السياسي العربي من أوسع أبوابه، وأطفأ بقدر كبير وهج القضية الفلسطينية، وأدى لصعود ظاهرة الخوف والقلق خصوصا مع تعمق القمع والاضطهاد. كما أدى لصعود الدورين السعودي والإماراتي المدعوم إسرائيليا.
بعد مرور أكثر من شهر على التصريحات الكندية إزاء السعودية خصوصا في مجال حقوق الإنسان والدعوة لإطلاق سراح الناشطات المعتقلات، أصبح هناك وضع غير مألوف. ففي الوقت الذي تصر فيه كندا على التمسك بموقفها الداعم الحقوق الإنسان وعدم استعدادها للاعتذار للرياض، تجد السعودية نفسها في موقف غير ضعيف. فالدول الغربية لم تعلن موقفا داعما لكندا، والأمريكيون أعلنوا أنهم لن يتدخلوا في ما يعتبرونه «شأنا خاصا بين البلدين»، ولذلك ما تزال الرياض تطالب أوتاوا بالاعتذار عن تصريحاتها. وفي الوقت نفسه أعلنت ألمانيا أنها تسعى لترطيب العلاقات مع السعودية بعد قرار وقف الصادرات العسكرية للسعودية بسبب حرب اليمن. وكان ضغط محور قوى الثورة المضادة قد استطاع إجبار اسبانيا على تغيير موقفها الذي أعلنته الشهر الماضي بوقف مبيعات السلاح للسعودية، ولكنها تراجعت عنه بعد يومين فحسب.
هذه الأجواء ساهمت بشكل مباشر في تشجيع دول الثورة المضادة على الإمعان في القمع الموجه للقوى المعارضة. واستغلت بروز ظواهر التطرف والعنف والإرهاب لتبرير القمع الداخلي، وسعت لربط المعارضات السياسية بالعنف والإرهاب، مستغلة وسائلها الإعلامية وعلاقاتها الدولية والخبرات الأجنبية التي استوردتها لتسهيل استهداف الحركات الإسلامية بشكل خاص. وساهمت الأزمة السورية بشكل خاص في زيادة الموقف تعقيدا، نظرا لتداخل عناصر الأزمة السياسية المحلية والإقليمية.
في الأسبوع الماضي أصدر القضاء المصري الخاضع لهيمنة العسكر حكما نهائيا بإعدام 20 شخصا يعتقد أنهم ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين، بتهم المشاركة في قتل شرطة بعد قمع اعتصام مسجد رابعة العدوية في آب/أغسطس 2013. محكمة النقض هذه أيدت أيضا أحكاما بالسجن المؤبد بحق 80 متهما، والسجن المشدد لمدة 15 عاما بحق 34 متهما، والسجن لمدة عشر سنوات بحق حدث في نفس القضية. كما أصدرت محكمة أخرى في 23 أيلول/سبتمبر حكما جديدا بالسجن المؤبد على محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وهو الأحدث في سلسلة من الأحكام المختلفة بحق الرجل البالغ من العمر 75 عاما. أحكام الإعدام والسجن المؤبد هذه أصبحت معتادة ولا تبعث القلق لدى الجهات الدولية السياسية. فظاهرة القسوة متعمقة في المشروع الغربي، كما أظهرت الحروب التي شنها الغربيون في المنطقة ابتداء من العام 1991. ولذلك لم يعد قرار إزهاق أرواح المواطنين، بذرائع مزيفة وتهم ملفقة، أمرا مقلقا لعالم يبتعد تدريجيا عن منظومتي الديمقراطية وحقوق الإنسان اللتين تبناهما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذه القسوة في المعاملة تهدف لكسر إرادة الشعوب ورغبتها في التغيير، وتعميق الخوف في نفوس النشطاء. كما أن ظاهرة تزييف الحقائق واللغة والمصطلحات خلقت واقعا مختلفا عن الماضي ويساهم في تزييف العقل والمنطق. ولذلك يكرر الحكام مصطلحات جذابة بعد إفراغها من المضمون مثل: الدستور والقانون والبرلمان والقضاء. وما يحدث في مصر منذ خمسة أعوام غير مسبوق في تاريخ البلد العربي الأكبر، الذي نجحت قوى الثورة المضادة، بدعم العسكر المصريين، في تقزيمه وتهميشه حتى أصبح خاضعا لدولة الإمارات التي لم يمض على تأسيسها خمسون عاما. وهكذا تم إخراج مصر من دائرة العمل العربي الذي تراجع كثيرا. وبدلا من أن يكون ذلك العمل أساسا لإيجاد مقاومة عربية شاملة للاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الغربية، أصبح الموقف العربي المزيف أداة للقمع والتطبيع مع الاحتلال. كما أصبح تمزيق البلدان الكبرى أحد أهداف قوى الثورة المضادة، سواء بتهميشها سياسيا أو إنهاكها اقتصاديا أم تمزيقها اجتماعيا.
ولا تقل الدول الأخرى شأنا في مجال قسوة التعامل وتوحشه مع المواطنين.
وتمثل الحرب على اليمن ذروة القسوة والتوحش الذي يطبع العلاقات بين بعض الأنظمة والشعوب العربية. فما يزال التحالف الذي تقوده السعودية يرفض السماح بأي تحقيق مستقل في مسار الحرب ومدى التزام أطرافها بالقانون الإنساني الدولي. فيما تتصاعد الضغوط على كل من أمريكا وبريطانيا لوقف تزويد السلاح للدول المشاركة في تلك الحرب. ومع تعقد المشهد اليمني بخروج الاحتجاجات في عدة مناطق ومنها محافظة المهرة القريبة من الحدود العمانية، مطالبة بخروج القوات الإماراتية، أكدت تقارير المنظمات الحقوقية الدولية وجود سجون سرية تدار بإشراف إماراتي، وأن هذه السجون تعتقل معارضي الحرب من اليمنيين وعددا كبيرا من الأفارقة المهاجرين الذين تعرضوا للتعذيب الذي شمل بعض حالات الاغتصاب، حسب ما أكده تقرير أصدرته منظمة هيومن رايتس ووج شهر أيار/مايو الماضي. وفي الأسبوع الماضي أكد عدد من مسؤولي منظمات الإغاثة الدولية حدوث مجاعة قريبا تطال عشرة ملايين من اليمنيين، وذلك في حديثهم أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة المنعقدة هذا الشهر. وقالت ليزا جراندي منسقة جهود الأمم المتحدة في اليمن: أنها حقيقة مروعة وحقيقية أننا نخسر الحرب لمنع المجاعة في اليمن» مضيفة «ليس هناك مكان آخر في العالم يعاني فيه الناس بهذا المستوى». وقال مسؤولون آخرون إن المجاعة ستعصف باليمن في أي وقت. هذه الحقيقة لم تدفع أيا من الدول المعنية بالحرب خصوصا أمريكا وبريطانيا لمنع الهجوم الذي تقوم به قوات الإمارات على ميناء الحديدة لاسترجاعه من الحوثيين وحلفائهم من اليمنيين. وقد بدأ الكثيرون يتساءلون: ما الذي يعطي الحق لدولة الإمارات للتدخل في اليمن؟ خصوصا أنها لا تشترك معها في الحدود الجغرافية؟
ثمة استنتاجات ضرورية مما تقدم: أولها أن مستوى التوحش في معاملة «الآخر» في البلدان العربية التي شهدت انتفاضات شعبية بلغ مستويات غير مسبوقة، الأمر الذي يجعل محاولات تقريب المواقف ووجهات النظر مستعصية. ثانيها: أن المال النفطي تحول إلى سلاح لدى بعض الدول خصوصا السعودية والإمارات لانتهاج سياسات قمعية على مستوى الداخل وتوسعية على صعيد الخارج. ثالثها: أن القيم الدينية والإنسانية أبعدت عن التعامل بين الفرقاء في حالات الاختلاف السياسي، ومن نتيجة ذلك تغول الأنظمة وقمعها وبلوغ الأوضاع مستويات غير مسبوقة من التوتر والإحباط واليأس. رابعها: أن قوى الثورة المضادة مصممة على مواصلة سياسات القمع والاضطهاد بدون حدود، وان المال النفطي قادر على حماية منتهكي القوانين الإنسانية الإغاثية والإنسانية والحقوقية. خامسا: أن الأوضاع في العالم العربي لم تصل من قبل ما وصلته الآن، وأن أمة العرب والمسلمين تعيش على حافة كارثة إنسانية وسياسية غير مسبوقة، وأن أساليب القمع السلطوي فشلت في تركيع الأحرار والمناضلين وطلاب الحرية والإصلاح السياسي.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/10/01