آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. هشام أحمد فرارجة
عن الكاتب :
أستاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية

آخر مغامرات الحب عند ترامب: دبلوماسية من نوع جديد


د. هشام أحمد فرارجة

  عندما تفشل دبلوماسية التهديد باستخدام القوة العسكرية ودبلوماسية العقوبات الاقتصادية، فان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلجأ إلى اعتماد دبلوماسية من نوع جديد، أملا في التأثير على بعض خصوم الولايات المتحدة التاريخيين. فبينما قام ترامب بالتهديد بمحو كوريا الشمالية من الوجود في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في السنة الماضية، وفي الوقت الذي توعد الرئيس الكوري الشمالي، كيم باستعمال الزر النووي، وحيث تسربت معلومات في أكثر من مصدر موثوق بأنه أعطى الأوامر لوزير دفاعه، جيم ماتيس بتوجيه ضربات صاعقة لكوريا الشمالية، فأن ترامب يستحدث نوعا جديدا من إطلاق الرسائل الدبلوماسية، وذلك عن طريق اللجوء إلى لغة الحب تجاه نظيره الكوري الشمالي. فأثناء احتشاد جماهيري للحملة الانتخابية للحزب الجمهوري في ولاية فرجينيا الغربية، عرّج ترامب على موضوع علاقة أمريكا مع كوريا الشمالية، مستعرضا بعض فصول هذه العلاقة المتشابكة، ومتحدثا بصراحة عن مدى توتر العلاقة بين الجانبين قبل عام، حتى بعث هو فيها الحياة لتصبح علاقة حميمة، على الأقل بينه والرئيس كيم.

  وللتعبير عن مشاعره الجياشة، أخبر ترامب جمهوره بأنه والرئيس كيم قد وقعا في حب بعضهما البعض. واستطرد قائلا أن الرئيس كيم قد أرسل له رسائل جميلة. واختتم بأنه يُكنّ للقائد الكوري الشمالي كل الحب.

  في زمان تغيرت فيه معاني الكثير من المثل والقيم البشرية بسبب تزاحم متطلبات الحياة وتسارعها، يبدو أن غاية مشاعر الحب، كأرفع قيمة إنسانية هي الأخرى قد تعرضت للكثير من المؤثرات والتقلبات. ورغم أن عالم السياسة يضج أحيانا كثيرة بمغامرات العشق والعلاقات الرومانسية، إلا أن هذه السلوكيات في الغالب تأخذ طابعا خفيا ومستترا، ومحاطا عادة بالإنكار والكتمان، إلا إذا ما تكشفت الأمور وضاقت الأرض على المتورطين بما رحبت.

  ومن المعروف أن قصص المغامرات من هذا النوع تحدث في معظم الأحيان بين طرفين غير متكافئين في التأثير والقوة في بيئة العمل، حيث الانجذاب يعكس إعجابا من قبل أحدهما تجاه الآخر لما يتمتع به من خصائص وامتيازات مثيرة، أو أن الانجذاب يشكل ترجمة لاختلال تفاعلات علاقات السلطة بين الطرفين المتعلقين. فالحبّ، أما أن يمثل مرآة من يعبّر عنه، أو مرآة لشخصية من يعبّر تجاهه.

  ورغم أن هذه السمة الأرفع من سواها تقترن بتفاعل المخلوقات الحية من الأزل إلى الأبد، بحكم ما تبعثه في النفوس من راحة وطمأنينة ودفء، إلا أنها في ذات الوقت، وخاصة إذا لم تكن متوازنة في منطلقاتها ومقاديرها وأهدافها وطرق التعبير عنها، قد تودي بأحد طرفيها إلى التهلكة، أو على أقل تقدير، إلى العذاب والألم، وفقا للمثل القائل: ومن الحب ما قتل. فكم من قصة حب ذهب أحد طرفيها ضحية للمغالاة في المشاعر، خاصة عندما لا تقابل بالمثل من الطرف الآخر. فروايات الحب من طرف واحد، أو من طرف أكثر من الآخر، كثيرة. وعمالقة الشعراء والكتاب صنعوا أفضل تراثهم الفكري بملاحم من هذا القبيل. ففيرجيل، مثلا، لم يبخل علينا في عمله الأسطوري، الانيادا، بسرد ما فعله بها حب ديدو، ملكة قرطاج لانياس الطروادي الذي لم يبادلها ذات المشاعر، بحجة تلقيه أوامر من الآلهة بضرورة مغادرتها. فتلك المرأة قتلها حبها عندما دفعها للإقدام على الانتحار. وكم من شخصية بطولية تنازل صاحبها عن البطولة وعظمتها نتيجة لما سببه له الحب غير المتوازن من إرباك واختلال ونهاية درامية.

  وما دام كل شيء سيف ذو حدين، فان الحب أيضا يمكن أن يحيي، ويمكن أن يميت. وهذا يمكن أن يقال عن الحب بتأثيراته على العلاقات الإنسانية بين الأفراد. ولكن ما الذي يمكن أن يفعله الحب في العلاقات الدوليّة؟

  يبدو أن التغييرات التي أحدثها ترامب في مسارات العلاقات بين الدول قد طالت أيضا أساليب الشعور بالحب والتعبير عنه، ليس بسبب إفرازات فضائحه الجنسية المتعددة، والتي حاول إخفاءها أو التغطية عليها باستخدام وسائل ملتوية مختلفة، وإنما بسبب إفصاحه بتصريحات علنية عن قصة حب سياسي ينسجها مع الزعيم الكوري الشمالي. ولا أحد يتوقع أن هذا الحب هو من النمط العذري، أو الأفلاطوني أو المباح، وإنما، على شاكلة الكثير مما يقوم به ترامب من استحداثات. فأنه يعتبر مما يمكن تسميته بدبلوماسية الحب.

  ما الذي يهدف ترامب إلى تحقيقه من خلال التعبير عن هذه العواطف الفيّاضة؟ ففي ذات اليوم، كان قد استخدم لغة الحب أيضا في محادثة هاتفية مع العاهل السعودي، الملك سلمان، معبرا له عن مدى حبه للسعودية شريطة أن تدفع مقابل ما تتلقاه من حماية من الولايات المتحدة، كما صرّح هو. فهل كانت غزالة ترامب سارحة في ذلك اليوم، كما يذهب القول الدارج بين الناس؟

لقد جاءت تعبيرات ترامب بالحب تجاه الرئيس كيم مباشرة بعد خطاب وزير خارجية كوريا الشمالية، راي يونغهو في الأمم المتحدة، والذي أكد فيه بما لا يدع مجالا للشك بأن بلاده لن تقدم على نزع أحادي للسلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية، وأن تطورا من هذا النوع، يجب أن ينطبق أيضا على الولايات المتحدة التي عليها إزالة أسلحتها النووية المنشورة في كوريا الجنوبية. والوزير الكوري اشترط حدوث أي تقدم في المباحثات المتعثرة بين الطرفين بقيام الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة على بلاده فورا كواحدة من بوادر حسن النوايا.

  فعلى ما يبدو، فأن ترامب يحاول استغفال القيادة الكورية الشمالية، من خلال إطلاق العنان لمشاعره الجياشة. فالنساء في أمريكا لم يعدن يثقن به بسبب ما تكشّف من فضائحه واحتيالاته. وقد وصل به الحد إلى الاعتقاد بأن هذا النوع من الدبلوماسية سوف ينطلي على قادة دول توجد بينهم وبين الولايات المتحدة ضغائن. وهو يعتقد ت أنه بهذا النوع من اللغة يستطيع التأثير على كوريا الشمالية لإبعادها عن حليفتها الإستراتيجية، الصين، التي تتصاعد حدة التوتر بينها والولايات المتحدة يوما بعد يوم. ومن ناحية أخرى، فأن اللجوء إلى هذا النوع من الدبلوماسية يشكل تعبيرا صارخا عن فشل ترامب في تحقيق أوهامه باستدراج كوريا الشمالية للتخلي عن أدوات القوة التي أوصلتها إلى حد الجلوس مع الولايات المتحدة على طاولة المباحثات، كند متكافئ. وواضح أن ترامب لا يدرك أن مجرد أن تسوّل له نفسه بأنه يستطيع خداع كوريا الشمالية من خلال هذه اللغة يعبّر عن نظرة استعلائية تستخف بقدرات الآخر على إدراك ديناميكيات ما يفكر ويقوم به هو. فحقا، أن ترامب في مأزق لا يدري كيف يخرج منه. وما يعبّر عنه يمكن أن يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة. وفي الغالب، فان هذا هو الحب الذي سوف يودي بصاحبه إلى غياهب ومتاهات الإخفاق المدوي والفشل الذريع.

  ألا يعرف ترامب، بعد، أن رئيس كوريا الشمالية مطلّ بالكامل على خصائص شخصيته، خاصة تعطشه للمديح والإطراء؟ من المعلن أن ترامب سوف يوفد وزير خارجيته، مايك بامبايو إلى بيونغ يانغ للقاء الرئيس كيم في السابع من تشرين الأول والتباحث بشأن نزع الأسلحة النووية واسترجاع رفات الجنود الأمريكيين الذين سقطوا أثناء الحرب الكورية في منتصف القرن الماضي. وعلى ما يبدو، فأن ترامب يلجأ إلى هذه اللغة المعسولة، متمنيا أن تساعد في تحقيق بعض أهداف زيارة وزير خارجيته. ولكن ما دامت المواقف الكورية الشمالية واضحة كل الوضوح وثابتة، فان الفشل المحتم سوف ينتاب طموحات ترامب وأوهامه في الغالب، كونها غير مبنية على دراسة الواقع وفهمه بما فيه من أسس حقيقية.

  ولذلك، فأن خيبة الأمل في خرافات الحب عند ترامب قد تدفع به إلى ما لا يتمناه لنفسه هو. فالتقلب في إطلاق التصريحات وصياغة المواقف من طباعه. وعدم الاتزان في تقدير الأمور من سماته. والهيجان والغضب أيضا من خصائص شخصيته.

  فحقا، كان الأجدى لترامب أن يذهب في التاريخ كالرئيس الذي استحدث وأشاع دبلوماسية تويتر، وليس دبلوماسية الحب الفاشل في العلاقات مع الدول. فكما عادت عليه مغامراته العشقية المحلية بالوبال، يبدو أن انزلاقاته الحبّية في الخارج قد يكون لها ما ليس لغيرها من عواقب وخيمة. فترامب لا بد إلا وأن يقاد إلى الإدراك بأن في الحب، تماما كما في الحرب، كل شيء يصبح مباحا ومستباحا. فلا كوريا الشمالية سوف تنطلي عليها أحابيله، ولا الصين سوف تخرج من هذه المحاولة للالتفاف عليها فارغة اليدين. وكل ما يقوم به ترامب هو تعميق مآزقه وتوسيع دائرة فشله، الأمر الذي قد تكون له أخطر النتائج عليه شخصيا، وأيضا على الولايات المتحدة، بشكل عام.

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2018/10/07

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد