الهدوء الذي يسبق العاصفة: انعكاسات مقتل خاشقجي على الساحة الأمريكية
د. هشام أحمد فرارجة
تسود الولايات المتحدة هذه الأيام حالة من الترقب الشديد حيال كيفية انعكاسات مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي الذي كان يعمل في صحيفة الواشنطن بوست، في القنصلية السعودية في اسطنبول، على واقع السياسة الأمريكية، بشكل عام، والانتخابات التشريعية النصفية المقبلة، بشكل خاص.
فمن ناحية، يلحظ المراقبون احتدام الجدل بين المدافعين عن الإبقاء على العلاقات الأمريكية—السعودية على متانتها، كما يفعل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والداعين لفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية صارمة على الحكومة السعودية، بما في ذلك العمل على عزل ولي العهد الحالي، الأمير محمد بن سلمان من منصبه، كما ينادي بذلك زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ليندزي غراهام، وأقطاب أخرى هامة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي. ومن ناحية ثانية، يبدو أن هذه القضية، بما فيها من أبعاد إنسانية وقانونية، قد ساهمت في العصف بحالة التراص والتماسك التي سادت الحزب الجمهوري مؤخرا، خاصة عند التصويت على اختيار مرشح ترامب لمحكمة العدل العليا، بريت كفانو. وعلى ما يبدو، فأن التوافق الذي صبغ تصريحات أعضاء الكونغرس الجمهوريين وأركان البيت الأبيض في الماضي القريب قد أخذ يتبعثر، ويتحول إلى تراشق بالعبارات وتسجيل للمواقف. فترامب يسعى إلى تبرئة النظام السعودي، رغم كل ما توفر من معلومات وبيّنات حول عملية القتل البشعة حتى الآن. وترامب يرى ضرورة تغليب المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة مع السعودية، بما يتعلق منها بالمبيعات الأمريكية للسلاح، والحصول على النفط السعودي وسواه، على أية اعتبارات إنسانية، أو قانونية، أو غيرها. وهو كان قد أوضح أثناء حملته الانتخابية وبعد أن تسلم الرئاسة بأنه يحب السعوديين لأنهم قد أبرموا معه، كمقاول للعقارات، عقودا بمبالغ طائلة لبناء وشراء الشقق، بمئات الملايين من الدولارات. وكما تساءل ترامب مستنكرا: كيف له أن لا يحبهم؟ وهو الذي يرى في السعودية بئرا لا ينضب من المال، يجب نهله باستمرار. وهو الذي اختار السعودية كدرة زيارته الخارجية الأولى بعد توليه منصب الرئاسة. وهو الذي تربط بين صهره ومستشاره الخاص لشؤون الشرق الأوسط، جاريد كوشنر، وولي العهد السعودي الحالي، الأمير محمد علاقة استثمارية فريدة. وهو الذي يرى، بالاشتراك مع كوشنر وبنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، في ولي العهد السعودي ركيزته الأساسية لترجمة خطته المعروفة بصفقة القرن بهدف الإجهاز على القضية الفلسطينية. ولذلك، لم يكن مفاجئا كثيرا بأن سارع ترامب لالتماس الأعذار للحكومة السعودية والدفاع عنها في وجه ما تتعرض له من انتقادات حادة في مختلف أرجاء العالم.
وبالمقابل، فأن قصة قتل خاشقجي قد فعلت ما لم تستطع فعله سياسيات سعودية أخرى، تصدرها ولي العهد نفسه، كحرب الإبادة الدائرة في اليمن وارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لأكثر من أربعة أعوام، وتوتير العلاقات مع جميع جيران المملكة ، تقريبا، لا سيما الحصار الجائر على قطر، وزعزعة استقرار المنطقة وسوريا بدعم الحركات الإرهابية المسلحة فيها، واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري أثناء زيارة رسمية له للرياض، وقمع الحريات الشخصية داخل المملكة والقبض على الأثرياء والأمراء وتجريدهم من بعض أموالهم، بحجة مكافحة الفساد.
فحادثة القتل هذه أحدثت زلزلة في الوجدان والوعي الأمريكي أكثر من كل الممارسات الأخرى مجتمعة، كون خاشقجي كان صحفيا، ويعمل في إحدى كبريات الصحف الأمريكية، وكونه كان مقيما في الولايات المتحدة، وكونه، رغم ارتباطه السابق بنظام الحكم السعودي وعمله كمستشار في السفارة السعودية في واشنطن، أخذ ينادي باحترام الحريات الأساسية في بلاده. فهذه القصة أصبحت الشغل الشاغل للإعلام الامريكي، بمختلف مؤسساته. والتحليلات التي توجّه اللوم لترامب لا تنقطع، كون ترامب يطعن دائما بمصداقية الإعلام ويصفه بعدو الشعب. وبعض الأصوات الناقدة لترامب تحمله جزءا من المسؤولية عن حادثة القتل، نظرا لدعمه غير المشروط لولي العهد، رغم كل ممارساته، وأيضا بسبب إطلاق العنان لصهره، كوشنر لكي يدير دفة العلاقة مع السعودية، في الوقت الذي لا يمتلك مؤهلا للوقوف على هذه العلاقة المتشابكة، سوى تطلعه لتحقيق المزيد من الأرباح وإبرام الجديد من عقود الاستثمارات الاقتصادية والسياسية.
يتضح مما سبق أن واقعة مقتل خاشقجي قد تشكل القشة التي سوف تقصم ظهر البعير في مناحي متعددة. فالعلاقات الأمريكية—السعودية لن تبقى على ما هي عليه الآن. ومقاطعة العديد من المسؤولين الأمريكيين ومدراء الشركات وأصحاب الاستثمارات والمشاريع لقمة الاستثمار في المستقبل، بما عرف بدافوس الصحراء مؤشر صارخ، وليس ذات أبعاد عابرة.
ومستقبل ولي العهد الحالي كملك للسعودية قد أسدل عليه الستار، في الغالب، ما لم يتم إبرام صفقات على أعلى المستويات لإنقاذ الموقف لصالحه، ولو مؤقتا. ولا شك أن الأمير السعودي في هذه المرحلة يتعلق بقشة كالغريق، حيث سارع إلى إيداع ما يقرب من مائة ميليار دولارا في الخزينة الأمريكية، بحجة الستيفاء العقود لشراء السلاح، تماما أثناء زيارة وزير الخارجية الأمريكي، مايك بمبايو للمملكة. ومن ناحية ثانية، فأن تظاهر الحزب الجمهوري كوحدة متماسكة لم يعد ممكنا، خاصة بعد بروز مواطن شرخ كثيرة في المواقف إلى السطح. وما المشادة بين مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون ومدير شؤون الموظفين في إدارة ترامب، جون كيلي في أروقة البيت الأبيض التي تناقلتها وسائل الإعلام مؤخرا سوى مؤشر صارخ على عمق الأزمات داخل الحزب الجمهوري وحاجة المختلفين فيما بينهم للتنفيس عن أنفسهم، حتى قبل أن تبدأ عملية جلد الذات الفعلية بعد الانتخابات النصفية التي قد تخيّب آمالهم، في غالب الظن. وحفاوة النصر التي شعر بها ترامب بعد نجاحه في إيصال كفانو إلى المحكمة العليا لم تعد تفي بالغرض. فمستشعرا كيف يمكن لهذه القضية أن تلقي بظلالها على الانتخابات النصفية، فأن ترامب نفسه بدأ يقر بما قد تفضي عنه هذه الانتخابات من إخفاقات للحزب الجمهوري. وهو أخذ يمهّد الطريق لتبرئة نفسه من المسؤولية عن هذه الإخفاقات المحتملة، ويلوّح بتحميل المسؤولية لغيره، على غرار ما يفعل عادة.
ولسوء حظ ترامب، فأن واقعة قتل خاشقجي جاءت في أسوأ توقيت له، عشية إجراء الانتخابات النصفية التي يعوّل عليها آمال عمره. فلا شك أن الكثيرين ممن كانوا ينوون التصويت لصالح الحزب الجمهوري، دعما لترامب، سوف يتوقفون عن فعل ذلك بسبب مواقفه وتصريحاته المهادنة للحكومة السعودية بعد حادثة القتل. وهنا تختلط في الذهنية الأمريكية الصورة النمطية الكارهة للعربي، والتي تنظر إليه كقاتل متوحش، مع الحقائق المكشوفة حتى الآن حول بشاعة عملية قتل خاشقجي. وهذا الاختلاط لن يخدم ترامب، ولا حزبه الجمهوري في الانتخابات النصفية، خاصة إذا ما عاد يطفو على السطح ما قد يكون للسعودية من علاقة ببعض من قاموا بشن الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول، عام 2001.
ولكن الأكثر إزعاجا لترامب هو ما بدأ يرشح عن بعض وسائل الإعلام والمعلومات الأمريكية باستعداد المحقق الخاص بشبهات ترامب، روبرت مولر لتوجيه مجموعة جديدة من الإدانات القانونية لعدد من المتورطين من فريق ترامب الانتخابي، وباستعداده أيضا لإصدار تقريره قبيل نهاية هذا العام. فعادة، لا يرشح عما سيقوم بفعله مولر شيء مسبقا أبدا. وكون هناك تمهيد ما لما قد يصدر عن فريق مولر من إدانات ومعلومات، لا شك يعد ترامب بعاصفة مدوية، قد لا تبقي ولا تذر.
لقد أهدر ترامب فرصة ذهبية لمعالجة حكيمة لازمة مقتل خاشقجي، بحيث كان بإمكانه استقطاب الكثيرين، حتى من معارضيه الى جانبه، لو قام بتغليب الاعتبارات الإنسانية على مصالحه الاقتصادية الشخصية، كما يعتقد الكثيرون. وعلى ما يبدو، بالفعل، فأن مصير ولي العهد السعودي الحالي يرتبط ، عضويا، بمصير ترامب. فالمصير السياسي لكل منهما يبدو موضوعا على المحك. وأحلام الأمير بن سلمان ليصبح عاهل بلاده قد تكون ذهبت أدراج الرياح. وفي هذا الخصوص، ما أشبه اليوم بالأمس. فحيث اعتقد الأمير بن سلمان أن انفتاحه على إسرائيل وأقطابها في واشنطن سوف يشكل صمام أمان له، فقد تخيب توقعاته. وكأن القدر المحتوم يبيّن أن كل من يقترب من الإسرائيليين والأمريكيين عنوة تذروه الرياح، تماما كما حدث مع شاه إيران الذي لم تستقبله الولايات المتحدة عند الإطاحة به، وكما حدث مع ماركوس الفلبين، وسعد حداد لبنان، وكذلك بشير الجميّل في لبنان. وما أن توطدت العلاقات بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مع إسرائيل، حتى سرّع ذلك في طي صفحة ذلك النظام.
ولذلك، فأنه ليس مبالغة القول أن حالة السكون النسبي التي تلبد الأجواء الآن هي بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة. فواضح أن كلا من ترامب وابن سلمان ينتظر كل واحد منهما خريف مكفهر، قد تتساقط فيه أوراق كثيرة، ربما أسرع مما يتوقع.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/10/21