الكلّ يقفز من المركب السعودي
د. رائد المصري
بهدوء… هي مجموعة من الأسئلة والتكهّنات والاستنتاجات التي تدور في خلدنا وليس من باب الادّعاء بالمعرفة والاطلاع على الصفقات والتحقيقات السّرية التي تلفّ قضية مقتل الخاشقجي باعتراف رسمي أخير للسلطات السعودية، والذي لم تهتمّ الأغلبيات العربية بوعيها الجمعي وإعلامها لمعرفة الحقيقة في مسألة تقطيعه أو قتله أو تناثر أشلائه. فالمهمّ هو بقاء حالة الإبهام والغموض والتحريض وبثّ الشائعات والرّياء والتدليس لضحية اختلفنا معها بالرأي والموقف السياسي أم لا، لكن كي تبقى كلمة الحق وميزان العدل والرحمة والقيم الإنسانية فوق كلّ اعتبار ومصلحة، مهما بلغ أمر السماسرة والدجّالين والمصطادين وتجار الإعلام وتماديهم في تحوير الحقائق. فماذا أنتم فاعلون أيها النّخب العربية ورأيه العام الذي لم يكلّف خاطره بعد قول كلمة حق حول مقتلة وتقطيع الصحافي من أجل رأيه وموقفه السّياسي…؟ وتسألون عن فلسطين لماذا اغتصبت وشرّد شعبها…؟
لفتنا موقف أصدقاء المملكة في لبنان وخارج لبنان برفضهم لمنطق الاستعجال وتوجيه الاتهامات السياسية المسبقة للمملكة، وهذا يذكّرنا بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث كانت لوائح الاتّهامات وصور المتّهمين للقادة السياسيين والضّباط الأربعة جاهزة من دون أدلّة، وحيث تمّ التّرويج والتّحريض من عواصم غربية وعربية لسيناريوات من شتّى أنواع التّهم بالقتل، وتشكّلت المحكمة الدولية وقبلها لجان تحقيقها التي وزّعت التّهم بين بيروت ودمشق وطهران، وكلّ من يعترض عليها كان يصنّف فوراً بأنّه من القتلة…
الكلّ في العالم العربي يعلم بخطورة ما حصل للخاشقجي والطريقة الشنيعة التي قتل فيها وعملية التمثيل بجثّته، ولم نسمع ردود فعل تدين هذا العمل من غالبية العالم العربي وجمعياته الحقوقية والإنسانية والـ «أن جي أوز»… مشهد يذكرنا بقتل مئات آلاف الناس الذين أبيدوا بوحشية على يد داعش والنصرة في العراق وسورية طيلة سبع سنوات من قبل قتلة ومأجورين ومتأسلمين ينتمون للمدارس الفقهية والتكفيرية ذاتها التي قتل بها الخاشقجي وتمّ تنفيذ «الحكم الشرعي» بحقّه في القنصلية السعودية في إسطنبول، ولم نسمع إدانة أو شجب أو تشكل رأي عام عربي ضاغط على الأقلّ… وتقولون لماذا اغتصبت فلسطين وشرّد شعبها..؟
العرب يرون كيف أنّ صفقة جديدة تعقد حول قضية الخاشقجي لإخراج سيناريو مقبول لهذه الجريمة وبيعها وتسويقها للرأي العام العربي والدولي وعلى حساب وحدة ومصير السعودية وشعبها، والعرب يتفرّجون على هذا المزاد العلني القبيح… هل كلّ ما يجري هو لأجل حقيقة قتل صحافي عربي لا يحمل أيّ جنسية غربية أميركية أو أوروبية سيقلب طاولة مصالح الغرب الاستعماري على الجميع؟ فهذه هي حقائق الغرب التي جرّبها اللبنانيون وعرفوا كيف تلاعبت بهم معرفة الحقيقة التي أرادها بعض الثوار في لبنان، وأذلّت حيواتهم وامتصّت أموال خزانتهم المقفرة كما يمتصّ ترامب أموال الخليج… فليس هناك رأي أو موقف عربي يحصّن الأمن القومي ويثبّت وحدة وكيانات الدول.. وتقولون لماذا اغتصبت فلسطين وشرّد شعبها؟
لماذا يتريّث العرب حدّ النوم، ويريدون التعقّل والعقلانية ومصير دولة بحجم المملكة تقرّره دول الاستعمار والتّفتيت والتقسيم؟ وأين دعاة الحرص على العمل العربي المشترك والخطر على «الأمن القومي العربي» الذي شكّل عارضة للحرب على اليمن والاصطفاف بوجه إيران؟
أيّها الزاحفون تحت أقدام الأميركي هل يئستم بعد أن جفّ حليب المملكة وتهاوت مكانتها وانثقب قعر مركبها؟ فماذا نقول في صمتكم وحرجكم وبلع ألسنتكم يا مروّجي وموزّعي صكوك الغفران والبراءة والديمقراطية والتعدّدية والتي نخرتم رؤوسنا بشعاراتها؟
هذا هو العالم الاستعماري اللاإنساني والفاجر، فهو الذي وضع الشعوب والدول والمملكات ووضعنا معها بين أحضان جريمة لا يمكن الدفاع عنها ولا يمكن السّكوت عنها كذلك، بغضّ النّظر عن الموقف السّياسي من المملكة السعودية ونظامها ومن أردوغان ومشروعه الخبيث ومن ترامب وجشعه المقيت أو تصريحاته الفجّة والقبيحة التي يطلقها وكأنّه الحاكم وفرعون عصره…
فمن الواضح أنّ ترامب سيستغلّ هذه الواقعة المقتلة ليبتزّ السعودية أكثر ممّا ابتزّها حتى اليوم، وسوف يعطي السعودية من كيسها عبر تدفيع الثّمن لولي العهد محمد بن سلمان، لكن بعد أن يأمن للطاقم الجديد الحاكم في مقبل الأيام، وهو لا يخفي ذلك بل يعبّر عنه علناً…
إذن فهي جريمة تتجاوز شخص جمال الخاشقجي لتصيب كلّ مواطن عربي في صميم كرامته واعتزازه بعروبته، جريمة مضافة إلى السّجل العربي الحافل بالقتل، والذي تفيض دماء ضحاياه في اليمن كلّ اليمن، وفي فلسطين جراء التّصفية بحقّ المناضلين والآمنين في أرضهم وفي سورية والعراق كذلك… فلماذا تأخّرتم عن القول والفعل وتجلسون اليوم وكأنّ على رؤوسكم الطّير؟
إنّها قضية جنائية من الطراز الأول ولا يمكن لأحد الدفاع عنها، ولا بدّ أن يقدّم مقترفوها للعدالة الدولية لأنّ الجريمة تمّت في بلد أجنبي وبتدخّل من السعودية عن طريق مجموعة قتلة مأجورين، ولكن من يرأس هذه المجموعة؟ ومن أمر بالتنفيذ في الوقت المحدّد؟ ومن سمح بقتل الصحافي؟ ومن نفّذ العملية، كلّهم يشكّلون عناصر جرمية متوفّرة ومتكاملة، وعلى المجتمع الدولي أن يتحرّك سريعاً للقبض على هذه العصابة المجرمة في حقّ هذا الصحافي وفي حقّ الإنسانية جمعاء، شريطة أن لا يتمّ الاستفراد بمكانة السعودية وأن يُعاد لها الدور الناعم الذي كان لها في السابق، وهذا يتطلّب مواقف عربية حازمة وتنسيقاً مباشراً بين الدول لمنع العبث بمكوّنات المملكة حتى لا يدفع شعبها الأثمان التي دفعتها شعوب المنطقة المجاورة التي حصل فيها القتل والتهجير والتدمير بريشة الإرهاب التكفيري..
وأخيراً هي مجرد تمنّيات على السعودية قد لا تتحقّق: بأنّ عليها أن توقف حربها على شعب اليمن الآمن وعلى مدنيّيه، وأن تتوقّف عن دعم الإرهاب وأن تبتعد عن أميركا وسياساتها الاستعمارية قدر الإمكان، وأن تشكّل منظومة عربية تقف مع الشعب الفلسطيني وتنصف قضيته العادلة، وأن تقف مع الشعب السعودي وتتطلّع لمتطلّباته ولطموحاته… ساعتئذٍ سنكون أول المدافعين عن السعودية ضدّ أيّ هيمنة أو محاولة لإسقاط هيبتها…
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/10/22