قمة اسطنبول الرباعية.. مشروع لوراثة الأميركيين!!
د. وفيق إبراهيم
هناك ترابطٌ غير معلن بين إعلان وزير الدفاع الأميركي «ماتيس» بأن روسيا لن تكون بديلاً عن الأميركيين في الشرق الأوسط وبين الدور غير المكشوف لقمة اسطنبول الرباعية التي ضمت رؤساء روسيا وتركيا ومستشارة ألمانيا.
هذان الحدثان يثيران الاستفزاز للوهلة الأولى، لأن موسكو لم تزعم أنها بصدد الاستحواذ على الشرق الأوسط حتى يبادر «ماتيس» إلى تصريح يقوم على الاستشعار المسبق بحركة الروس الإقليمية، على قاعدة النتائج الميدانية التي حققوها في سورية والاستراتيجية في تركيا ومصر والقابلة للتوسّع في العراق والجزائر من دون نسيان اليمن التي أوفدت رسولها عبد السلام الممثل للحوثيين إلى موسكو طلباً للعون والإسناد، هناك أيضاً الكثير من الدول الشرق ـ أوسطية التي تتحين مزيداً من تراجع الدور الأميركي حتى تنسُجَ تقاربات مع القياصرة الجدد.
فهل بإمكان أي مراقب أن ينفي مدى العمق في علاقات تنضج على نار هادئة بين موسكو والسعودية، ابتدأت تسويات في أسواق الطاقة، حرصاً على موارد البلدين، وتذهب في اتجاه التنوّع الاقتصادي والسلام على وقع محاولات الروس تجنّب الاصطدام السياسي بالرياض في اليمن والبحرين وبعض أنحاء الخليج..
ومع أن العالم بأسره أدان ولي العهد محمد بن سلمان وفريقه بجريمة اغتيال الصحافي المعارض جمال الخاشقجي، إلا أن موسكو تقول إنها تصدق نفي بن سلمان لأي دور له في حادثة الاغتيال.. فهو بريء كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب.
هذه هي الحركة البوتينية الانتشارية التي يخشى «ماتيس» بأن تؤدي إلى انحسار كبير لبلاده في الشرق الأوسط، ما جعله يطلق هذا «الاستشعار عن قرب» إنما بالمقلوب لتهدئة حركة حلفائه في الشرق الأوسط المصابين بالقلق الشديد في حركة التموضع، فهم «أميركيو السياسة» في مرحلة تخسر فيها واشنطن في كل مكان فماذا يفعلون؟ ومن يحميهم من المستجدات؟
واحدة من حركات البحث في تعبئة الفراغات الأميركية المتدحرجة هي القمة الرباعية في اسطنبول التي جمعت بين رؤساء ثلاث دول محسوبة على الأميركيين منذ 1945 وهم التركي أردوغان والفرنسي ماكرون ومستشارة ألمانيا ميركل… جمعتهم بالقيصر الروسي الجديد فلاديمير بوتين.. للتنسيق في الحل السياسي للأزمة السورية..
الملاحظة الأولى هي أن هذه القمة استبعدت ثلاثة أطراف محورية في هذه الأزمة وأولها الدولة السورية التي تمسك بثلاثة أرباع أراضيها، وإيران مع حزب الله، الحلفاء الأساسيون للدولة على المستويين الاستراتيجي والسياسي والعسكري، وهناك أيضاً استبعاد الأميركيين الذين يحتلون قاعدة التنف في جنوب سورية عند زاوية حدودها مع الأردن والعراق، وشرق سورية حتى الشمال بالتعاون مع قوات قسد الكردية المدعومة منها بشكل كامل.
فيتبين أن روسيا هي الطرف الشديد المحورية في الأزمة السورية، وتركيا، التي تحتل قسماً في ادلب والشمال، مقابل فرنسا وألمانيا اللتين تحوزان على نفوذ هامشي في الشرق إنما من خلال الدور الأميركي فقط وليس ثمرة اجتهاد خاص بهما.
إذا كانت دول قمة اسطنبول على هذا التباين في مستوى الأدوار في أزمة سورية فماذا يفيدون بعضهم بعضاً؟ ويتجشّمون عناء عقد قمة تبدو للوهلة الأولى أنها تتجاوز الأميركيين؟
هناك تقييم للبلدان الأساسية في الاتحاد الأوروبي، يؤكدون فيها مسألتين مترابطتين: تراجع الأدوار الأميركية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً مقابل صعود روسي كبير عسكرياً واستراتيجياً يؤسسان لأدوار اقتصادية مستقبلية، وهناك صعود اقتصادي صيني قادر في مقبل العقود على التهام الاقتصاد الأميركي.. فهل يستطيع الرئيس ترامب باستعمال أساليب الصراخ والتهديد والعقوبات وقف هذا التدهور؟..
وموضوع اغتيال الخاشقجي ليس إلا نموذج مصغر لبدء تمرّد أصدقاء أميركا على نفوذها.. فللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945.. وبدء الهيمنة الأميركية على السعودية والعالم الإسلامي، تتجرأ دول أوروبية وأخرى مأسورة داخل الفلك الأميركي وبلدان إسلامية عديدة توجيه اتهام لا لبس له للملكية السعودية بقتل الصحافي الخاشقجي.
وما كان بإمكان تركيا رفع مستوى إداناتها لولي العهد بالجريمة، لولا إحساسها بضعف الدور الأميركي عالمياً، وقدرتها على تحقيق بعض المطالب الخاصة بدورها الإقليمي والتي يمنعها الأميركيون عنه، بالإضافة إلى إصرارها على رفع الحصار عن قطر حليفتها الخليجية الوحيدة.. وتعميق حركتها السورية ـ العراقية.
على المستوى الروسي، يعرف بوتين محدودية النفوذ الفرنسي ـ الألماني، لكنه يرى أن توسيع الدور الروسي في الإقليم بحاجة إلى غطاء سياسي دولي وخصوصاً من طرف دول أوروبية لا تزال ضمن الآليات الأميركية، لكنها بدأت بالبحث عن ادوار سياسية تؤدي آلياً إلى أدوار اقتصادية، فإعادة إعمار سورية مشروع يتدحرج نحو ادوار اقتصادية إيرانية وعراقية وربما يمنية في مقبل الأيام.
وكان بوتين واضحاً عندما قال لدول قمة اسطنبول إن الطريق إلى إعادة إعمار المنطقة يمر حتماً بالجانب السياسي. وكان يردُّ على «فلسفة ماتيس» حول عدم قدرة روسيا على وراثة الأميركيين في الشرق الأوسط محاولاً جذب تركيا وفرنسا وألمانيا بالتلويح لها أن موسكو قادرة وبمفردها على إعادة إعمار سورية التي تحتوي على ثروات أهم من ثروات الخليج ذهباً ونفطاً وغازاً.
إن هذه المعطيات لا تذهب إلى حدود الاعتقاد أن الاتحاد الأوروبي وتركيا، بدآ برحلة الانقلاب على النفوذ الأميركي التاريخي، لكن باشرا ومن دون أدنى شك بالبحث عن تموضعات جديدة توفر لهما أدواراً مستقبلية في الاستراتيجيا والاقتصاد من طريق التنسيق مع روسيا الدولة المحورية التي يختبئ خلفها تنين صيني يتحضّر لإطلاق شراراته الهائلة، وإيراني يشعر بأن الأميركيين يحاولون وقف تراجعاتهم من خلال عرقلة التطور الإيراني بأي وسيلة.
إنه إذاً صراع دولي مفتوح يبيح الضرب في كل المواقع، قد يرجئ تقهقر إمبراطورية العم سام، إنما ليس إلى أمد طويل..
وكما تشكلت موازنات القوى في الحرب الثانية في ميادين شمال أفريقيا والخليج وبلاد الشام، على هدير البحث عن النفط، فإن التوازنات الجديدة تؤكد على ولادة محور روسي، صيني، إيراني، سوري يتحضّر أيضاً لاستقبال اتحاد أوروبي ويابان على قاعدة تأسيس تفاهمات قطبية كبرى ترعى شؤون السلام وتحدّ من الاتجاه الوحدوي للأميركيين.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/10/29