ترامب والخريف السعودي
د. هشام أحمد فرارجة
قد يحار القارئ في أمر تذبذب مواقف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب حول دور الحكومة السعودية ومسؤوليتها، لا سيما ولي العهد فيها، الأمير محمد بن سلمان، عن قتل جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. فأحيانا ترى ترامب يستنفر للدفاع عن السعودية وحكومتها، وعن المصالح الأمريكية ومبيعات السلاح وسلاسة الحصول على البترول. فترامب هو الذي كان أول من أصر على ضرورة التريث في إصدار الأحكام حتى تتضح نتائج التحقيقات بخصوص هذه الجريمة. وهو الذي كان من صرّح بأن من قام بعملية القتل يمكن أن يكون شخصا أو مجموعة ضالة خارجة عن القانون، وكأنه يلتمس الأعذار للملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده. وفي هذا السياق، كان ترامب قد أكد أكثر من مرة أمام وسائل الأعلام بأن الملك السعودي قد أكد على عدم علمه بهذه الواقعة، وأنه يصدّقه. وفي إحدى المقابلات معه، قام ترامب بالدفاع عن الحكومة السعودية بشكل مباشر، مقارنا بين تخطيء مرشحه لمحكمة العدل العليا، بريت كفانو وتحميل رأس الهرم في السعودية مسؤولية مقتل خاشقجي. وكلما كان الأعلام يثير التساؤلات ويكشف المزيد من المعلومات، كان ترامب يسارع للتصدي لمن ينتقدون الحكومة السعودية على هذه الفعلة الشنيعة.
ولكن، من ناحية ثانية، وخاصة في الأيام الأخيرة، بدأ ترامب يصعّد من لهجته تجاه السعودية، وخاصة تجاه ولي العهد الحالي فيها، ويشير إلى أنه يشعر بأنه تعرّض للخيانة من قبل المسؤولين السعوديين. وبينما كان ترامب بالمرصاد لكل من تسول له نفسه الإشارة بأصبع الاتهام إلى الحكومة السعودية، ولا سيما إلى ولي العهد في المملكة، بدأت تصريحات ترامب تحمل في طياتها أكثر من تلميحات بأن المسؤولية تقع مباشرة على ولي العهد نفسه. وفي هذا السياق، صرح ترامب أن حادثة مقتل خاشقجي تعرضت إلى أكبر عملية إخفاء ممكنة ومعروفة للحقيقة، وكأن ترامب يقول أن ما نشر من معلومات حتى الآن ليس سوى النذر اليسير.
هذا التبدل، وبالأحرى التقلب في المواقف عند ترامب، لا شك أثار الكثير من التساؤلات عند المتابعين والمراقبين. فالبعض تساءل إذا ما كانت مواقف ترامب الأخيرة الناقدة لولي العهد السعودي، تحديدا، تعبر عن اختلاف جوهري في قناعاته، ومن ثم، في سياساته، أو أن كانت مجرد زوبعة في فنجان لخدمة أغراض إعلامية قبيل الانتخابات التشريعية النصفية. وبالفعل، انكب محللون بوجهتي النظر آنفتي الذكر، محاولين فهم دوافع التغير في التصريحات عند ترامب، حيث يحاول كل فريق الدفاع عن فرضيته، بينما الحقيقة قد تكون رهن التيه والضياع.
إن المتفحص المتأني لمواقف ترامب وتصريحاته منذ حدوث أزمة قتل خاشقجي يجب أن يلاحظ أن هناك نمطا ملفتا للانتباه في تصاعد حدة تصريحات ترامب وتراجعها. فكلما شعر ترامب بأن العاصفة ضد الحكومة السعودية في تصاعد، يبدو أنه كان يأخذ على عاتقه العمل على تهدئتها وتبديدها، من خلال إثارة الشكوك بإمكانية وجود قتلة آخرين من خارج صفوف الحكومة السعودية. وكلما شعر ترامب أن العاصفة قد بدأت تخف حدتها، بسبب عامل الوقت ونفاذ اهتمام العالم بهذه القضية، تجده يصب الزيت على النار، ويطلق تصريحات نارية ضد السعودية وحكومتها. فما الذي يا ترى يقرّر ارتفاع حدة النبرة عند ترامب وانخفاضها؟
ليس جديدا ولا خفيا على أحد أننا نعيش في زمان يعج بالصفقات ومحاولات الكسب السريع. ولا شك أن ترامب، الذي يمكن أن يُنتقد على كل سياساته، يبقى شخصا بارعا في اقتناص الفرص وانتهاز الظروف لإبرام الصفقات، خاصة من خلال استثمار التصلّب في المواقف، أحيانا، والتقريب بينها، أحيانا أخرى . فترامب، لا شك يعرف أن الجميع في السعودية منهمكون في معالجة ما ترتب على واقعة قتل خاشقجي من تبعات وآثار ونتائج، خاصة على ولي العهد شخصيا، بل وعلى المملكة برمتها، داخليا، وإقليميا ودوليا. ولا شك أن ترامب يدرك أن هذه الأزمة تشكل الأصعب والأخطر التي تعصف بالمملكة منذ إنشائها قبل قرن من الزمان تقريبا. وبالتأكيد، فإن ترامب معني بأن يجعل ولي العهد يستشعر جيدا مدى جسامة النتائج التي قد تطال كل جانب من جوانب حياة السعوديين، رسميين كانوا، أو شعبيين داخل المملكة وأثناء تنقلاتهم في مختلف أنحاء العالم. ومن المؤكد أن ترامب يريد أن يبقي على هذه الأزمة حية في نفوس المسؤولين السعوديين جميعا، بهدف ابتزاز المملكة لتقديم أكبر قدر من ثرواتها للولايات المتحدة، أن لم يكن لترامب وأقرانه، بشكل مباشر. فكلما خبت حدة الازمة، يهرع ترامب لتذكير الحكومة السعودية بأن الثقة بسياسات المملكة ومواقفها قد تضعضعت عند الأصدقاء والحلفاء، قبل الخصوم والأعداء. فالخصوم والأعداء لا يثقون بالمملكة أصلا.
باختصار، يسعى ترامب إلى تذكير ولي العهد بأنه والمملكة على مفترق طرق حقيقي، بحيث قد يحمل ما هو قادم من أيام خريفا ثقيل الظل لهم وعليهم، أو قد يشكل سحابة عابرة، خلصت من إلقاء ما في جعبتها من حمولة عكّرت أجواءهم، وذلك اعتمادا على مقدار ما يقدمونه من عطايا وأموال، وما يعقدونه من صفقات.
وما دام ترامب نفسه يؤكّد بأن واقعة مقتل خشوقجي قد تعرضت لأكبر عملية إخفاء للحقائق، فأن ذلك يعني أنه يعرف أكثر بكثير مما يفصح عنه. وما دام عالم السياسة مقترنا في الكثير من الأحيان بدهاليز الحبكات والمخططات الخفية ذات الأبعاد المتعددة، فلمَ يا ترى لا يكون من حفز الذي يقف وراء عملية القتل الوحشية هذه يهدف إلى إيقاع المزيد من الخلافات بين تركيا والسعودية، أن لم يكن دفعهما للصراع، من ناحية، وللإيقاع بالقيادة السعودية الشابة، حتى تبقى مهلهلة، مهزوزة، ضعيفة تتعلق بحبال النجاة عند ترامب وإسرائيل، مهما كلفها الأمر من أثمان.
وفي كل الأحوال، فإن الخريف الذي يخيّم الآن على السعودية لم يعد مرهونا ببقاء ترامب في منصب الرئاسة أو عدمه. ففي حال نجح ترامب بالصمود أمام ما يتعرض له من تحقيقات ومحاولات للعزل، فانه سوف لا يألو جهدا في الاستمرار بالضغط على السعودية وابتزازها لتقديم المزيد من الأموال كمقابل لما يعتبره ترامب حماية العائلة المالكة، كما أفصح عن ذلك قبيل واقعة مقتل خاشقجي، بعد مكالمة هاتفية أجراها مع العاهل السعودي، الملك سلمان. وفي ذات الوقت، سوف يستمر ترامب في العمل على إثارة حفيظة السعودية ضد ما سيظل يصوّره بالخطر والبعبع الإيراني.
وأما إذا ما جرت الرياح بعكس ما تشتهي سفن ترامب بفوز الديمقراطيين في الانتخابات النصفية القادمة، واحتدام وتيرة التحقيقات بخصوص شبهاته، وقيام المحقق الخاص، روبرت مولر بإصدار تقريره، فإن مستقبل القيادة السعودية الحالية، خاصة مستقبل ولي عهدها، سوف يصبح في مهب الريح. فدرجة الحنق عند رموز الحزبين، الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة تجاه العائلة المالكة غير مسبوقة. ولا شك أنها تعد بتغيرات حقيقية في مسار العلاقات الأمريكية-السعودية.
ولذلك، فإن تعلق القيادة السعودية الحالية بترامب وصهره، ومستشاره لشؤون الشرق الأوسط، جاريد كوشنر لا يمكن أن يؤتي على المملكة سوى المزيد من المخاطر والوبال، ليس فقط لأن مستقبل ترامب نفسه على كف عفريت، كما يقال، وإنما أيضا بسبب ما يبغي ترامب تحقيقه من أرباح على حساب السعودية. أن رهن ولي العهد السعودي حياته ومستقبله بيد كوشنر وترامب قد يجلب عليه المزيد من العزلة، ولربما التهلكة السياسية. وحتى لو نجح ترامب، ومن ثم كونشر، في اجتياز ما يواجهانه من عقبات وتحديات، فان لحياتهما السياسية حدودا محددة بسبب التناوب الديمقراطي على الحكم في الولايات المتحدة.
ليس أمام القيادة السعودية من خيار سوى إعادة رسم إستراتيجيتها الداخلية والإقليمية والدولية، بشكل يضيّق الفجوات على المستويات الثلاثة آنفة الذكر. فمثلا، أن الحرب التدميرية على اليمن لم يعد لها معنى، لا من الناحية السياسية، ولا العسكرية، ولا الأمنية، ولا القانونية، ولا الإنسانية. وان الاستمرار في تأزيم العلاقات مع دول الجوار للمملكة، أيا كانت الخلافات والاختلافات، لم يعد مجديا. وان الإجهاز على الحريات الداخلية والإمعان في خلق الإستعداءات لا يمكن أن يجلب أجواء من استتباب الأمن والاستقرار. وأن الاعتقاد بأن المملكة تستطيع أن تحصل على شهادة حسن سلوكها من خلال التقرب من إسرائيل وطعن القضية الفلسطينية في مقتلها لا يعبر عن فطنة، ولا حكمة ولا نظرة ثاقبة للحاضر، ولا للمستقبل.
إن الخريف الذي يتهدد السعودية في هذه المرحلة حقيقي وخطير للغاية. وأبعاده أكثر مما يدور في خلد القادة السعوديين. فحقا، وكما لوّح بذلك ترامب نفسه بعد حديثه عن مكالمته الهاتفية مع الملك سلمان، فان وجودهم السياسي، ووحدة بلادهم والسيادة على ثرواتهم ومقدراتهم مستهدفة.
إن لدى السعودية من الإمكانات مما يمكنها، ليس فقط من اجتياز هذا الخريف المكفهر، وإنما أيضا من أن تكون الدولة الأولى في العالم العربي، إذا ما أقرنت هذه الإمكانات المادية بما يوازيها من متطلبات الحكمة والتخطيط الاستراتيجي المستقبلي. إن السعودية تقف اليوم على منعطف حرج وخطير. وما تقوم به القيادة السعودية من خطوات الآن سوف يقرّر مستقبل هذه البلاد لعقود قادمة.
وما دامت السعودية تقف على منعطف حرج وخطير جدا، فان أمام النظام السعودي فرصة ذهبية لتحويل التحديات التي تواجهها إلى مكاسب ذات أبعاد إستراتيجية ثابتة، بدءا بإعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية، كقضية العرب المركزية، ولكن ليس للاستثمار السياسي الضيق، وإنما للدفع باتجاه حل عادل ومنصف للشعب الفلسطيني.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/10/30