جذور خضوع الرياض وخياناتها القومية
زياد منى
إن معرفة جذور انصياع الرياض التام لأوامر واشنطن تستدعي العودة إلى أحداث مهمة كما ترد في الوثائق ذات الصلة المفرج عنها، التي سنسردها تالياً كما ترد في مؤلفAndrew Cooper: The Oil Kings: How the U.S., Iran, and Saudi Arabia Changed the Balance of Power in the Middle East.
هذا المؤلف يوثق أحداثاً مفصلية في تاريخ المنطقة، بما في ذلك تسجيلات البيت الأبيض ذات الصلة، التي حاول هنري كيسنجر منع الكاتب من الاطلاع عليها، لكن المحكمة العلية رفضت طلبه. للتذكير، كيسنجر كان «بطل» تلك المرحلة، لأنه كان يرسم سياسات واشنطن عند غياب الرئيس نيكسون الذي كان يعاني سياسياً وجسدياً أزمة «ووترغيت»، وكان في معظم الأحيان سَكِراً ونائماً، أو غائباً عن الوعي بسبب تعاطيه الكحول. إضافة إلى مستشار الأمن القومي الأميركي، ثمة شخصان ذوا صلة، هما فيصل وشاه إيران.
لقد لخصنا المواقف الرئيسية التي ضمت أيضاً الخيانات في تلك المرحلة في نقاط رئيسية كما يأتي:
- مقالات صحافة البترودولار التضليلية تدعي أن قرار الملك المغدور فيصل المبادرة إلى قطع النفط كانت تعبيراً عن أحاسيسه الوطنية والقومية، بينما تنقل الوثائق ذات الصلة المشار إليها في المؤلف صورة مختلفة تماماً. فقد أخبر الوفود الأميركية الرسمية وغير الرسمية أنه يشعر بضغط شديد (من ليبيا والجزائر وسوريا) للانضمام إلى مواجهة واشنطن. فعلى سبيل المثال، قال فيصل لوفد من شركات النفط العاملة في السعودية (في آب 1973): إن حرباً ستندلع بين الدول العربية وكيان العدو في خلال ستة أشهر، وإنه سيكون مضطراً إلى استخدام النفط سلاحاً لتفادي نعته بخيانة القضايا العربية. في مواجهة ذلك، وضعت واشنطن في مطلع آب 1973 خططاً عسكرية لاحتلال منابع النفط في الخليج الفارسي بمشاركة كل من إيران والعدو الصهيوني، بل إن نكسون قال علانية: ليعلموا أننا جديون، لقد فعلنا ذلك عام 1958 في لبنان، وعام 1970 في الأردن.
- عندما انضمت السعودية إلى حظر النفط في أواخر 1973، كان ردّ واشنطن: «لقد تجاوز فيصل الخط الأحمر»، وسيكون لنا رد (الرد المقترح الفوري كان احتلال أبو ظبي. تعليق وزير الدفاع الأميركي وقتها كان: كل ما ينقصنا قيام مشيخة بحجم بصمة الإصبع بتهديد أمننا. أما قادة سلاح البحرية، فكانوا يقولون: سنعيد رؤوس هذه الخرق البالية إلى مكانها على ظهور الجِمال). أما الرد المؤجل، فجاء يوم 25 آذار 1975 بقتل فيصل، تماماً كما توقع وأسرّ بمخاوفه لهنري كيسنجر دوماً وفق تسجيلات البيت الأبيض.
- المؤلف يوضح أن أحداثاً في تلك المرحلة تميزت، كما في الماضي، بغدر وخيانة لا حدود لهما (النعوت منا). لقد وجّه أنور السادات طعنة إلى حلفاء مصر والعرب السوفيات، فطرد المستشارين قبل الحرب، لكنه عاد ليستجدي مساعدتهم عندما تمكنت قوات العدو الصهيوني من عبور قناة السويس ومحاصرة الجيش المصري الثالث. قبل ذلك، السادات خان سوريا رفيقته في الحرب عندما أوقف تقدم القوات المصرية في سيناء. فالمؤلف يوثق صرخات قادة العدو الهستيرية المطالبة واشنطن بالمساعدة بعدما خسرت ربع طائرات سلاح الجو وفقدان مئات القتلى في صفوف قواتها. وقتذاك قرر كيسنجر إرسال مساعدات عسكرية فورية إلى كيان العدو قائلاً: إن القوات السورية تمكنت من (احتلال) الجولان وهي على وشك اجتياح الجليل. قادة العدو، دوماً وفق الكاتب، أبلغوا واشنطن عجزهم عن الصمود مطولاً في حال دفع مصر قواتها في سيناء.
- ويذكر الكاتب أن وضع واشنطن والدول الغربية ازداد قتامة في التاسع عشر من تشرين الأول 1973 عندما فرض معمر القذافي حظر نفط على الولايات المتحدة (مخصص لولاية نيويورك)، وضاعف سعر برميل النفط الليبي من نحو خمسة دولارات إلى نحو تسعة.
- بالانتقال إلى محادثات الملك المغدور فيصل مع كيسنجر بتاريخ 8 تشرين الثاني 1973، يقول الكاتب نقلاً عن الوثائق الرسمية وتسجيلات البيت الأبيض ذات الصلة: «الملك فيصل استجداني قائلاً: أليس بإمكانكم مساعدتي؟ أليس بإمكانكم منحي القدس؟ أما ردّ كيسنجر فكان: هذا آخر أمر نلتفت إليه... المشكلة الرئيسية الآن حظر النفط، وأوضاعنا وأوضاع حلفائنا في الغرب».
- الكاتب ينقل تهديد وزير النفط في السعودية أحمد زكي اليماني الذي هدد بنسف آبار النفط في حال حدوث تدخّل عسكري ضدها، أما كيسنجر، فلم يكن بدوره يخفي احتقاره الشديد لليماني. أما الوثائق الرسمية ذات الصلة وتسجيلات البيت الأبيض، فتقول إن الملك فيصل كان مضطراً إلى أخذ مواقف صلبة[كذا] علانية تجاه واشنطن، لكنه لم يكن «بصلابة معمر القذافي» فكان يخشى مواجهة واشنطن، إذ كانت مواقفه الخفية عكس ذلك، خصوصاً أنه كان على قناعة بأن واشنطن كانت وراء انقلاب الأخير، وكان يخشى أن تطيحه.
- في 28 تشرين الثاني 1973، أبلغ كيسنجر وزير الدفاع الأميركي شلسنغر بتسلمه رسالة مثيرة من الرياض تشير إلى رغبتها في تخفيف حظر النفط... في حال تأكيد واشنطن التزامها خطياً عقد مؤتمر للسلام. الكاتب لا يذكر إن حصل ذلك. وأكد فيصل لهنري كيسنجر صداقة الرياض، لكنه مضطر إلى أخذ مواقف صلبة بسبب ضغط من سمّاهم الراديكاليين العرب (سوريا والجزائر وليبيا).
- في السابع من شباط 1974، استُدعي سفير السعودية في واشنطن إبراهيم السويل للاجتماع بالرئيس نكسون الذي أبلغه أن الأخيرة فهمت أن الرياض تود وقف حظر النفط، لكنها تخشى عداوة الجزائر وسوريا واتهامهما لها بخيانة القضية القومية، ووعد بالعمل على حلّ «قضية الشرق الأوسط» بعد إنهاء حظر النفط.
- في 6 شباط 1974، اجتمع وزير خارجية مصر بسفير الرياض في القاهرة وانتقده انتقاداً لاذعاً وعنيفاً للغاية بسبب عدم وقف حظر تصدير النفط. ذلك حصل بحضور سفير واشنطن.
- في مطلع آذار، عرض نكسون ما يشبه «مقايضة كبرى/ grand bargain» لفيصل تقضي بفتح صفحة جديدة في العلاقة مع السعودية تتلخص في عرض قبول هدفها المقدس منذ فترة طويلة، أي التحالف العسكري والاقتصادي مع المملكة، مقابل رفع حظر النفط ورفع إنتاجها والحفاظ على مستوى الأسعار حينئذ.
- في السابع من آذار، أبلغ كسينجر وزير الدفاع الأميركي بالحلف المقترح وضرورة إرسال وفد عسكري وآخر اقتصادي لوضع تفاصيله. في يوم الاثنين 11 آذار، هاتف كيسنجر نكسون وأبلغه أن السعودية مندفعة على نحو غير مسبوق إلى إتمام صفقة التحالف العسكري والاقتصادي مع واشنطن، وأن العائلة المالكة تأمل أن يحميها التحالف الجديد من أعدائها الفكريين في الداخل والخارج وحمايتها من أعدائها في العراق واليمن الجنوبي.
- وفق التحالف الجديد تعهدت واشنطن القضاء على تهديدات المعارضة داخل السعودية وأعدائها العَقديين في الخارج مقابل وقف حظر النفط والحفاظ على سعره ثابتاً. هذا التحالف الجديد وصف بأنه هزة أرضية عنيفة في العلاقات بين الطرفين.
- في 18 آذار، أُوقف حظر النفط في اجتماع «أوبك» في فيينا.
ملخص القول: تلك المرحلة شهدت خيانات عدة لفلسطين ولقضايانا الوطنية والقومية، مارستها دول عربية، في مقدمتها نظام السادات «بطل العبور إلى ضفة الخيانة القومية»، وخيانات آل سعود المستمرة وعقد صفقات سرية على حساب القضية العربية الرئيسة. كذلك تخلى آل سعود سرّاً عن القضية التي انخرطوا فيها مضطرين، لا بدوافع وطنية/ قومية ولا بطيخ، وعقدوا صفقة مع واشنطن منحتها حق رسم سياسات المملكة الداخلية والخارجية مقابل الحفاظ على عروشهم القصبية. هذا ما نراه يتكرر حاليّاً بالخيانة العلنية التي يرتكبها أعراب مشيخات الخليج الفارسي من قطر إلى السعودية ومحميتها البحرينية إلى الإمارات المتصارعة وطعنها فلسطين والأمة العربية عبر تحالفها مع العدو الصهيوني.
لقد صدق القول: «لا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح باقٍ فيها».
وللتذكير أيضاً: واشنطن رمت بعملائها في مختلف أنحاء العالم في المزبلة بعدما انتهت مهمتهم؛ من فيصل الذي دفع حياته ثمناً لتجاوزه الخط الأحمر، والشاه وماركوس وسوهارتو وغيرهم كثيرين. كما نقول: في العقود الأخيرة شنت الولايات المتحدة حروباً كثيرة في مختلف بقاع الأرض، في لبنان والصومال وفييتنام وكمبوديا والعراق وسوريا واليمن، لكنها هُزمت فيها جميعاً، وستُهزم مجدداً وسينال الحكام الخونة نصيبهم على أيدي حليفتهم وسادتهم قبل أعدائهم.
لقد كان الشاه حليفكم، لكنه همس عام 1974 في أذن كيسنجر: «لو كنت رئيس الولايات المتحدة، لقلت للعرب: دُسّوا نفطكم في مؤخراتكم». أما مدير «وكالة الاستخبارات المركزية» وقتها، رتشرد هلمز، فقال للكاتب بنبرة لا تخلو من الاحتقار: «لم نكن نأخذه (الشاه) على محمل الجد».
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/11/02