ترامب يتفنن في عرقلة سير العدالة وقمع الحريات
د. هشام أحمد فرارجة
لم ينتظر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب طويلا حتى صدور النتائج النهائية للانتخابات التشريعية النصفية في الولايات المتحدة، ليسارع في الانقضاض على عمل المحقق الخاص، روبرت مولر بما يدور حوله من شبهات بالفساد المالي والأخلاقي وخروقات جنائية وتواطؤ مع روسيا بخصوص الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فما أن اتضح أن حزبه الجمهوري قد أمن أغلبية، ولو بسيطة في مجلس الشيوخ، حيث يجري استجواب من يعينهم الرئيس للمناصب العليا في الحكومة، بمن فيهم مساعديه، أي الوزراء، حتى قام ترامب بعزل وزير العدل الأمريكي، جف سشنز قبل مرور أقل من 24 ساعة على إجراء هذه الانتخابات، وتعيين مدير شؤون الموظفين في وزارة العدل، ماثيو ويتاكر مكانه كقائم بأعمل وزير العدل . ورغم أن عزل سشنز لم يكن مستغربا أبدا من حيث القيام به، إلا أن توقيته، وبهذه العجالة الملفتة للانتباه، له دلالاته وأبعاده القانونية والسياسية الخطيرة بالنسبة لسير العدالة في الولايات المتحدة، وأيضا بالنسبة لمستقبل عمل الحكومة الأمريكية وحالة الاستقرار العامة. ورغم أن حزب ترامب حقّق نصرا جزئيا بالمحافظة على أغلبية في مجلس الشيوخ، في الوقت الذي خسر فيه الأغلبية التي كان يتمتع بها في مجلس النواب، حيث الاستدعاء والمساءلة للمسؤولين، إلا أن ترامب لم يأبه بما قد يترتب على قراره بعزل سشنز وتعيين ويتاكر من نتائج.
الخطيئة التي ارتكبها سشنز هي أنه قرّر النأي بنفسه عن موضوع التحقيقات بالشبهات التي تحيط بترامب، كونه كان جزءا من حملته الانتخابية. فسشنز امتثل لتوصيات المكتب المعني بالمعايير الأخلاقية في وزارة العدل، وأحال الأمر برمته إلى نائبه، راد روزنستاين، الذي ينتظر هو الآخر دوره، في الغالب، للعزل من قبل ترامب. ومنذ أن قرر سشنز عدم الانخراط بموضوع التحقيقات، ثارت ضده حفيظة ترامب الذي صبّ جام غضبه عليه بشكل علني في أكثر من مناسبة، لأنه يتوقع من مساعديه الولاء المطلق، بغض النظر عن الاعتبارات المهنية للعمل.
لم يشفع لسشنز أنه كان أول عضو مجلس شيوخ، عن ولاية ألباما، يساند ترامب ويدعمه في ترشحه وفي حملته الانتخابية. ولم يشفع لسشنز أيضا ملفه المظلم ضد الحريات المدنية، والمنسجم مع طروحات ترامب وممارساته. فترامب لم يكلّف نفسه حتى مجرد الاتصال بسشنز للتباحث معه في موضوع الاستقالة، وإنما أوكل الأمر إلى مدير شؤون الموظفين في البيت الابيض، جون كيلي، الذي قام بدوره بالاتصال بسشنز والطلب منه تقديم استقالته فورا. وحسب العديد من التقارير الإعلامية، فان كيلي لم يقبل طلب سشنز بأن يستمر الأخير في عمله حتى نهاية الأسبوع، لكي يقوم بتوديع طاقمه وترتيب أوراقه، بل أصر على التقديم الفوري للاستقالة في ذات اليوم. وهذا ما قام به سشنز، بالفعل.
وخلافا للمألوف، لم يقم ترامب بتعيين نائب وزير العدل، روزنستاين كقائم بأعمال وزير العدل، وإنما اتجه لمن هو أدنى في سلم التوظيف الإداري، مدير شؤون الموظفين في الوزارة، ويتاكر، كونه معروفا بولائه المطلق لترامب، وبتوجيه انتقاداته العلنية اللاذعة للتحقيقات التي يجريها مولر. ولأن سشنز المقال قد نأى بنفسه عن موضوع التحقيقات، كان طبيعيا أن يتولى الأمر نائبه، روزنستاين، الذي أصبح يشرف على مولر وعمله. ولكن لأن روزنستاين لم يقدّم واجب الطاعة والولاء المطلق لترامب، نشبت بين الاثنين خلافات، وقام ترامب في عدة مناسبات بتوجيه الانتقادات لروزنستاين.
وبتعيين ويتاكر لمنصب القائم بأعمال وزير العدل، يكون ترامب قد تجنّب الدخول في صراع مع مجلس الشيوخ الذي عليه اقرار تعيينات عليا من قبل الرئيس، والمضمون جمهوريا أصلا. فالقائم بأعمال الوزير لا يحتاج إلى إقرار من قبل مجلس الشيوخ، ويستطيع أن يستمر في عمله لمدة 210 يوما. وبهذا التعيين الفوري لويتاكر، يكون ترامب، من الناحية النظرية، قد ضمن الاطلاع على مجريات التحقيقات، من خلال القائم بأعمال وزير العدل، والذي سيتولى مهمة الإشراف على عمل مولر. وفي ذات الوقت، يعتقد ترامب بأنه يستطيع أيضا إجهاض عمل مولر من خلال قيام ويتاكر بتجفيف ميزانية طاقم التحقيقات، ولربما قيام ويتاكر بعزل مولر من منصبه، ومن ثم ايصال التحقيقات إلى طريق مسدود. بمعنى آخر، بعزل سشنز وتعيين ويتاكر مكانه، يكون ترامب قد قام بانقلاب حقيقي على مجريات سير العدالة في تحقيقات مضنية حول ممارساته، وربما خروقاته.
ومن أجل البرهنة على تغوّله بعد الانتخابات النصفية، لم يكتفِ ترامب بعزل سشنز وتعيين ويتاكر، وانما سارع أيضا إلى سحب أوراق اعتماد مراسل شبكة السي إن إن للبيت الأبيض، جيم اوكوستا، تماما في ذات اليوم، على خلفية مشادة كلامية دارت بينهما في المؤتمر الصحفي الذي عقده ترامب في صباح ذلك اليوم.
فبالنسبة لترامب، فإن الإعلام الذي تمثله السي إن إن وغيرها من وسائل الإعلام هو “عدو الشعب” الذي يجب التصدي له. وواضح أن ترامب الذي لا يروق له وجود سلطتين أخريين، تشريعية وقضائية، للإشراف عليه وموازنة أعماله ومحاسبته، إذا ما استدعت الضرورة ذلك، بالتأكيد لا يريد أن يتعاطى مع وجود سلطة رابعة تساؤله وتتبّع ما يقوم به، ألا وهي سلطة الإعلام. وحرية الصحافة عند ترامب لا قيمة لها إلا بمقدار ما تخدمه هو شخصيا.
مثل هذه الخطوات التي قام بها ترامب فورا بعد اتضاح نتائج الانتخابات النصفية، ولكن قبل صدورها بالكامل، تبين كيفية تفنن ترامب بالتصدي لمن يعتبرهم خصومه وناقديه ومن لا يمتثلون لجميع رغباته واملاءاته. ولا شك أن مثل هذه الخطوات تؤشر بشكل كبير على طبيعة ما يمكن أن يقوم به ترامب من خطوات وما قد يتخذه من سياسات. فلان السلطة التشريعية المنتخبة الآن، والتي ستبدأ عملها في مطلع العام القادم، منقسمة بين الجمهوريين والديمقراطيين، فانه يتوقع أن يهرع ترامب لاستغلال تركيبة السلطة التشريعية الحالية ذات الأغلبية الجمهورية لاتخاذ أكبر قدر ممكن من الخطوات التي يريد تحقيقها، حتى يتجنب المواجهة الدائمة المحتملة مع مجلس النواب المنتخب. وفي ذات الوقت، فان ما سيميز عمل ترامب الآن وفي المستقبل هو إصدار المراسيم التنفيذية، التي يمكن أن تصبح سياسات، ولو مؤقتة في بعض الجوانب، والتي لا تحتاج إلى إقرار من قبل السلطة التشريعية. فبالفعل، فإن ترامب سوف يسعى جاهدا إلى تهميش عمل مجلس النواب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ولكن تبقى المفاجأة الأكبر من كل ما قام به ترامب حتى الآن تتمحور حول ما يمكن أن يقوم بفعله المحقق الخاص، مولر. فمولر، من خلال طاقمه، قد أمضى وقتا وبذل جهدا مضنيا للنظر في كل ما يحيط بترامب من شبهات. ومن المستبعد جدا أن يقبل مولر بأن تذهب تحقيقاته أدراج الرياح بغمضة عين، أو بجرة قلم. ولا بد أن قيام ترامب بعزل سشنز، ومن ثم، بإعاقة عمل مولر من خلال تعيين ويتاكر الرافض للتحقيقات، يذكر مولر بقيام ترامب بعزل مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، جيم كومي، العام الماضي، لأنه لم يقدم له واجب الطاعة والولاء. ولا شك أن مولر، ذا الخبرة الطويلة، يعرف أن ما قام به ترامب هو عرقلة لسير العدالة، مع سبق الإصرار. فهل سيقبل مولر التعاطي مع ويتاكر بسبب تحيزه لترامب، بهدف اطلاعه على مجريات التحقيقات، التي سيسربها الأخير لترامب؟ أم هل سيقبل ويتاكر بتنحية نفسه، هو الآخر، عن موضوع التحقيقات، كما يطالبه بذلك الكثيرون الآن؟
إن فصول الدراما الترامبية، التي تبدو شكسبيرية في طبيعتها، والتي تتبلور تفاصيلها، الواحد بعد الآخر، والتي على ما يبدو تُمتع ترامب، الذي يرى في نفسه بطلها، لا تتوقف عند هذا الحد، وكأن الحظ وترامب على عهد! فاليوم توالت الأخبار بنقل قاضية في محكمة العدل العليا الأمريكية، روث بادر جينزبيرج إلى المشفى بعد إصابتها بجروح وكسور نتيجة لسقوطها في مكتبها. تعتبر هذه القاضية البالغة من العمر 85 عاما الأكثر لبرالية في المحكمة العليا. وإذا ما شاءت الأقدار، أو حالتها الصحية أن تتنحى هذه القاضية جانبا، فان ذلك سوف يفتح أمام ترامب بابا ذهبيا جديدا لتعيين قاضٍ جديد للمحكمة العليا مكانها. ولا شك أن ذاكرة الأمريكيين ما زالت حبلى بالتفاصيل والملابسات التي أحاطت بتعيين بريت كفانو قبل فترة ليست بالبعيدة. ولكن إذا ما تبلورت فصول الدراما الترامبية بهذه الطريقة، فأن ترامب يتوقع أن يكون أكثر حزما ويمينية وتطرفا في تعيين عضو آخر جديد للمحكمة العليا. وهو سوف يستخدم ما سيطرحه على أنه عراقيل أمام اتمام تعيين كفانو للتسريع في تعيين عضو جديد.
قد يكون من المبكر الجزم بالتفاصيل الآن، ولكن واضح كل الوضوح أن الأمور في الولايات المتحدة تتجه نحو المزيد من الانقسامات، ولربما التشرذم. فقد يكون ترامب يشعر بأنه قد ضمن عدم تعريضه للعزل من الرئاسة، كون هذا الإجراء يتطلب موافقة مجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ. ولكن في حقيقة الأمر، فأن الكثير الكثير من الأمور سيعتمد على ما قد يقوم بفعله مولر إزاء موضوع التحقيقات. فترامب لم ينجُ من حبال المساءلة والمكاشفة. أقل ما يمكن لمجلس النواب أن يقوم به هو ممارسة صلاحيته بطلب الحصول على جميع الوثائق المتعلقة بترامب من مختلف الجهات، المالية والقانونية وسواها. وفي حينه سوف يتكشف ما لم يكن في الحسبان، في الغالب.
وفي حين حاول ترامب منع مجلس النواب من الاطلاع على الوثائق المتعلقة به، وربما اللجوء إلى المحكمة العليا للنظر في خلاف محتدم بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فان أزمة دستورية معقدة قد تنشب في الولايات المتحدة، بكل ما قد تخلفه من نتائج. وعندها، فأن فصول الدراما الترامبية سوف تتتابع. وعلينا جميعا انتظار مآلات الأمور بالنسبة لمن يعتبر نفسه مخرجا وبطلا في هذه الدراما.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/11/10