الفوضى الثورية ميراث فرنسي
ناصر قنديل
تكفي العودة لمستويات الفوضى والعنف التي لازمت الثورة الفرنسية الأم عام 1789 والتي شهدت في محطاتها المختلفة وصولاً حتى العام 1793 اقتحامات وإعدامات وتصادمات، وخلالها جميعاً سرقات وإحراق قصور ومبانٍ ومتاجر وإقفال طرقات، لاكتشاف متلازمة العنف والفوضى مع كل عمل ثوري في تاريخ فرنسا. وعدم أخذ هذا البعد كمصدر للذهول والحديث عن غرابته على مشهد فرنسي «حضاري» مستمدّ توصيفه من لغة بلهاء تجد جذورها في تمجيد فرنسا وباريس خصوصاً، كمدينة ليلية للأضواء والعطور والأزياء.
في التاريخ الفرنسي تلازمت الأحداث الثورية مع الفوضى والعنف حتى تحوّلت الفوضوية إلى نظرية ذات منشأ أوروبي فرنسي روسي ألماني، لكن بجذور وتفسيرات فرنسية طاغية، لكن الأحداث الثورية لم تكن يوماً بعيدة عن شرطين مرافقين لها، الأول هو اتصالها بوجود أحداث وتحولات خارجية كبرى في مكانة دولة كبرى كفرنسا، ذات سياسات استعمارية، وطرف في حروب دولية، والثاني وجود قادة وشرائح اجتماعية وافدين إلى فرنسا من غير الجنسية الفرنسية يظهرون في صفوف الثوار، وغالباً ما يحتلون مكانة قيادية بينهم، وفي الغالب أيضاً يقع المحللون في سذاجة قراءة الحدث الثوري بخلفية جنسياتهم، ومكانتهم في الثورات، كمدخل لتوصيف الثورة كعمل انقلابي لحساب خارج ما، ألماني مرة وأميركي مرات.
في التاريخ الفرنسي أيضاً من الثورة الفرنسية الأم إلى ثورة عام 1870 وولادة كومونة باريس، كأول حكومة شعبية أدارت العاصمة الفرنسية، أو عاصمة عالمية، لستين يوماً، ومن بعدها ثورة الطلاب عام 1968، ما يجعل رؤية مشهد اقتحام الباستيل، وخروج السجناء وما رافقه من فوضى، كخلفية متحركة في كل تكرار للوضع الثوري، وما يجعل سماع صدى صوت ماري انطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر، صاحبة القول، كما رواه جان جاك روسو، إن لم يجد الفقراء خبزاً فليأكلوا الكعك، في كل محطة من محطات التحركات الثورية في شوارع باريس، حتى لو تكن النهاية درامية كما هي مع إعدام ماري أنطوانيت.
في تاريخ فرنسا ليست هناك دائماً ثورات، لكن كلما كانت هناك ثورات كانت تنتهي باستعادة النظام التقليدي لحيويته بصيغة جديدة، وكانت ترافق محطاتها حالات التغير الصعب في ظرف فرنسا الدولي وعجز الحكام عن تقديم تأقلم يحفظ الكرامة الفرنسية ويجنب فرنسا ذل الانكسار، وكان يرافقها الكثير الكثير من العنف والفوضى، وكان يلعب غير الفرنسيين دوراً مفصلياً في تحشيدها وتنظيمها وقيادتها، باعتبار باريس عاصمة عالمية وليس بصفتها مجرد كونها عاصمة لدولة عالمية، لكن دائماً كان هناك الفقر والجوع والطلاب والنقابات، ومحاولة ابتكار لأسلوب جديد، وتنظيم جديد، ونظرية جديدة. والأهم أنه كان دائماً هناك حاكم تمّ تسويقه كظاهرة مبهرة وتكشف عن صناعة مريبة وتفاهة لا تحتمل.
السترات الصفراء في فرنسا هي استجابة للقانون الطبيعي، أنه لكل فعل رد فعل من النوع والقوة ذاتهما ولكن باتجاه معاكس. وهذا ينطبق تماماً على عناصر المفاجأة والغموض والسرعة، التي تجمع بين ظاهرتي أمانويل ماكرون والسترات الصفراء. أما العنف والفوضى والظروف الصعبة للسياسة الفرنسية الخارجية، والأزمات الأجتماعية الناتجة عن تراجع المكانة الاستعمارية لفرنسا، وظهور الفقر والجوع، وحضور الجماعات غير الفرنسية الأصل في الشارع، فكلها لا تفيد شيئاً في تفسير الخصوصية، لأنها سمات فرنسية لكل وضع ثوري في تاريخها كعاصمة عالمية. الجديد هو أن الظاهرة ترجمة فرنسية لتطوّر شبكات التواصل وثورة المعلوماتية في صناعة ثورات القرن الحادي والعشرين، ونكهة عطر باريسي شعبي سيصير موضة عالمية في هذا القرن، ولعله يكون مناسباً لكل من يريد الدخول على خط هذه الثورات، ويقوم بشراء الماركة وبيعها في أسواق جديدة.
أضيف بتاريخ :2018/12/10