لبنان ليس مشيخة نفط خليجية
د. وفيق إبراهيم
السلطات في منطقة الخليج العربي مصدرها عائلات قبلية تعاونت مع المستعمر البريطاني في النصف الأخير من القرن التاسع عشر فكافأها بتوليها شؤون مشيخات واسعة غنية تحكمها حتى اليوم بدكتاتورية مطلقة لا مثيل لها، وتحولت مع الوقت طبقات حاكمة مقفلة لا ينتسب إليها الفرد إلا بالانتماء البيولوجي.
أما شعوبها فهم مجرد رعايا في دول قرون أوسطية لم ترتقِ بعد إلى مستوى شعوب الدول المعاصرة في الحقوق السياسية، يبتهلون إلى الله للمحافظة على طبقة عائلية حاكمة تقوم على نظام السمع إلى ما تقوله والطاعة الفورية لها، وإلا فالبراء منهم، أي يحقُ للحاكم قطع رأس الذي يتخلى عن الولاء.
هناك ملكيات كثيرة في العالم مثال أسبانيا، أنجلتره، الدانمارك وغيرها فيها أنظمة ملكية، لكن مصدر السلطات فيها هو شعوبها التي تنتخب ممثليها على مستويات إدارة البلاد في النيابة والوزارة والمال العام.
كان هذا الوصف ضرورياً لإظهار الفارق في مفهوم السلطة بين لبنان والخليج، ففي وطن الأرز الشعب ينتخب ممثليه بتحالفات طائفية واسعة، فينتخب في البداية مجلساً نيابياً يختار هو رئيسه، وهذا المجلس الممثل لكل اللبنانيين هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية ويكلف رئيساً لتشكيل حكومة لا تصبح شرعية إلا بعد أن يوليها ثقة غالبية أعضائه.
هكذا تنشأ البناءات الدستورية في لبنان وقد يكون للتأثير المالي أو الخارجي والطائفي دور في قناعات الناخبين، لكن هذا الأمر لا يلغي أن الناخبين المنضبطين في إطار طوائفهم ومذاهبهم هم الذين ينتخبون ممثليهم، أما التأثيرات الإعلامية والانتماءات الثانوية فلها أدوارها النسبية في كل مكان، لكنها الأساس الانتخابي في لبنان.
لماذا هذا التفسير؟ كان ضرورياً لمعالجة أوضاع بعض السياسيين المتأثرين بالتجربة الخليجية التي عايشوها وهم رجال أعمال واقتصاد هناك.
ولما عادوا إلى وطنهم لبنان اعتقدوا بإمكان بناء طبقات حاكمة تستطيع بواسطة الطائفية والمال استنساخ التجربة الخليجية.
هل هذا ممكن؟
اللعبة في لبنان أكثر تعقيداً، فأقصى ما يمكن للسياسي أن يصل إليه إذا حقق نجاحات سياسية كبيرة هو أن ينجح في الانتخابات النيابية عن طائفته ويتحالف مع ناجحين آخرين عن طوائفهم لهم بريق متساوٍ معه فيشكلون فريقاً متحالفاً يدخل في صراع سياسي مع فريق آخر متحالف سبق وطبق السياق نفسه، فتنقسم البلاد دائماً بين نهجين وفريقين شعبيين متناقضين يبقيان مصدر السلطات مع كل عودة موسمية ومحددة إلى الانتخابات الضرورية.
أين المشكلة إذاً؟
إنها موجودة في الحريرية السياسية الآتية أصلاً من السعودية وهي تحاول نقل تجربة آل سعود إلى لبنان، حاولت وفشلت لأن الطوائف الأخرى رفضت، ما أدى إلى انكفائها عن تطبيق آحادية عائلية على مستوى وطني وفشلها في تطبيق النموذج السياسي السعودي على الطائفة السنية، أي فرضُ ولاءات كاملة على مبدأ السمع والطاعة، وذلك بواسطة اختلاق أعداء خارجيين وإثارة الخوف من الآخر كما يفعل الأميركيون مع الشعوب الضعيفة: إرهاب الخليج من إيران وأوروبا الشرقية من روسيا، وشعوب جنوب شرق آسيا من الصين… فسعت الحريرية السياسية إلى إرهاب السنة من الشيعة «الفرس المجوس» والإسلام من المسيحية وهكذا دواليك. وعندما انتبهت إلى حاجتها إلى تحالفات، فتشت عن الأخطر على نفوذها فاختارت الشيعة فريقاً لديه مشروع مقاوم في الإقليم وامتداد تحالفي كبير في سورية وإيران وتعاديه بلدان الخليج والسلطات الأميركية و»إسرائيل».
فاعتبرت أن هذا التخطيط يؤدي مع القليل من نثر المال السياسي والكثير من الضغط الخطابي والإعلامي والديني إلى سيطرتها على الموقع السياسي الذي يمثل السنة اللبنانيين، فيتحالفون مع القوى المحلية الموالية للغرب ويشكلون أكثرية بوسعها حكم البلاد على مبدأ السمع والطاعة السعودي.
هذه الأحلام لم تنجح في الانتخابات: مسيحياً فازت قوى متنوّعة ومتناقضة، وكذلك عند الدروز إنما مع احتفاظ الوزير وليد جنبلاط بأكثرية النواب، لكن الشيعة شكلواً استثناء بمفردهم فقد تمكن فريقهما حزب الله وحركة أمل من الاستئثار بكامل المقاعد المخصصة لمذهبهم وذلك بسبب الخطر الإسرائيلي الذي يتعرّضون له في جنوب لبنان و»الإرهاب الاسلاموي» الذي يضع من إبادة الشيعة جزءاً أساسياً من مشروعه.
إن ظهور هذين الخطرين في وقت واحد أديا إلى تماسك انتخابي شيعي مع حزب الله الذي يقاتل هذين الخطرين في سورية ولبنان، وبالتالي مع حليفته حركة أمل.
لكن الحريرية السياسية لم تتمكن من الهيمنة على كل مقاعد طائفتها، فحصلت على نحو 54 في المئة منهم مقابل 46 في المئة لنواب نجحوا على لوائح منافسة لآل الحريري وبينهم ستة أعضاء شكلوا كتلة مستقلة ويطالبون بمقعد وزاري واحد في أي تشكيلة حكومية.
وإذا كان الرئيس ميشال عون والحريرية السياسية نجحا في حلحلة عُقد تأليف الحكومة عند المسيحيين والدروز بالتوصل إلى تقاسمات تعكس التعددية السياسية الناتجة من الانتخابات النيابية الأخيرة، فإن رفض رئيس الحكومة المكلف اشتراك النواب السنة المستقلين في الحكومة الجديدة بذرائع واهية أدّى إلى تعطيل التشكيل، وتبين أنه يريد إبقاء هذه الطائفة مجردة من الحيوية السياسية ورتيبة لتأمين زعامته المطلقة عليها، حسب مفهوم السمع والطاعة والولاء والبراء لآل سعود وتحالفاتهم ما أنتج أزمة حكومية خطيرة عمرها تسعة أشهر تتحول تدريجياً إلى أزمة نظام وتفسير دستور له صلاحية البت بكل النزاعات الدستورية. «فالسعد» وفريق عمله القانوني يعتقدون أن الرئيس المكلف يستطيع أن يبقى رئيساً مكلفاً من دون تشكيل حكومة في المدة التي يريدها فيما ترى مصادر القصر الجمهوري أن مجلس النواب هو مصدر السلطات بوكالته الانتخابية عن اللبنانيين وبالإمكان العودة إليه لدراسة وضع الرئيس المكلف: هل يحق له الاستمرار أم يجري عزله وتكليف آخر لتشكيل حكومة جديدة، وهنا تبذل الحريرية جهوداً جبارة لتحشيد مذهبي سني بدعوى أن رئيس الجمهورية الماروني يعتدي على صلاحيات رئيس الحكومة السني.
وهذه من العجائب لأن أي بلد في العالم لا يقبل إعطاء مدة مفتوحة لا حدود لها لرئيس حكومة مكلف كي يشكل حكومة: قد تنتهي ولاية الرئيس قبل تشكيل الحكومة.
فكيف الحال مع بلد مهدد امنياً ووطنياً من «إسرائيل» ووصل إلى حافة الانهيار الاقتصادي والعلاقات بين طوائفه في مرحلة صعبة وأوضاع خدمات الكهرباء والمياه وسحب النفايات من الشوارع في أصعب مراحلها.
فهل يجوز مع هذه الظروف المأساوية تأخير الحكومة بذريعة أن «السعد» لا يعترف بالنواب السنة المستقلين.
لبنان إذاً في مرحلة مأساوية، لأن الحريرية السياسية لم تعرف بعد 28 عاماً من سيطرتها على السلطة السياسية فيها أن هذا البلد ليس مشيخة نفط تقوم على السمع والطاعة. فعساها تفهم هذه المعادلة قبل خراب البصرة!! وهي أكبر الخاسرين فيه.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/12/11