هل تتخلّى جبهة النصرة عن «الإمارة الإسلامية»؟
د. وفيق إبراهيم
ما يحدث في شمالي سورية ليس منطقياً ولا يعكس مجرد صراع بين منظمات متطرفة على النفوذ، بقدر ما يكشف عن محاولات ترعاها دول متورطة في الأزمة السورية تحاول فيها توحيد أدوات «التطرف الإسلامي» في إطار جبهة واحدة وبالقوة واعتبارها ممثلاً أساسياً مستمراً يعكس في العمق مصالح القوى الإقليمية والدولية ويلعب أيضاً دور «المعارضة السورية» التي يجب أن تتمثل في المفاوضات مع الدولة السورية.
هذا النهج الجديد يعكس تراجع ادوار القوى الخارجية في الميدان السوري كما يترجم إصرارها على الاستمرار بأدوات جديدة الأمر الذي يتطلب منها ادارة قتال بين منظمات المعارضة المتطرفة تنتصر فيه المنظمة الأكثر دعماً وقوة وسط حيادية مشبوهة من الطرفين الخارجيين اللذين يريدان هذه اللعبة شمالي حلب، وهما الأميركيون والترك.
الأدلة على تورطهما كثيرة، وأولها صمت الأتراك عن نجاح النصرة في الالتهام العسكري والسياسي لتنظيمين مواليين لها بشكل كامل، وهما «الزنكي وأحرار الشام» في بضعة أيام واجتياحها نحو 6900 كيلومتر مربع كان معظمها تحت سيطرة المنظمات الاخوانية التابعة مباشرة للإخوان المسلمين وتنظيمات تركمان سورية والجيش الحر المزعوم «الجبهة الوطنية، حراس الدين، أنصار الدين، أخوة الجهاد، ألخ .
أما الأميركيون فتجاهلوا هذا الصراع العنيف وكأنه لا يعنيهم منظمين بالمقابل جولات سياسية للمستشار الرئاسي بولتون ووزير خارجيتهم بومبيو لبناء تحالفات إقليمية من جهة وللتنسيق مع الأتراك في الشمال السوري من جهة ثانية.
يبدو أن مشروع بناء التحالف الإقليمي أسهل على واشنطن من الاتفاق مع الترك على الوظيفة الجديدة «للنصرة»، وبالتالي لأي جهة تتبع؟
يريد الأميركيون تحويلها إداة كاملة لنفوذهم في سورية بعد خسارتهم «داعش» الذي لم تعد تُمسِك إلا ببؤر بسيطة.
فالمشروع الأميركي يريد تغييراً كبيراً في ايديولوجية النصرة ومستوى تمثيلها، أي تحويلها إلى معارضة مدنية تستطيع الاشتراك في المفاوضات على مستقبل سورية كطرف له ولاء وحيد وهو الولاء للمشروع الأميركي في سورية، وهذا يتطلب القضاء على تنظيمات «الجبهة الوطنية» والإخوانية والتركمانية مع حصر المعارضة في النصرة بعد إلباسها سربالاً عصرياً قابلاً لمحاكاة الزمن بالأبواق الأميركية كحالة معظم الدول العربية والأفريقية.
بالمقابل لا تمانع تركيا على التغيير الايديولوجي للنصرة، لكنها تريدها ذات ولاء تركي كامل يؤمن لأنقرة مصالحها في جغرافية الكيان السوري من جهة ومؤسساته السياسية من جهة ثانية، وذلك بعد دمجها بالمنظمات الإخوانية والتركمانية الأمر الذي أدى إلى انفجار خلاف أميركي تركي تجسد بامتناع الرئيس التركي أردوغان عن استقبال المستشار بولتون وما يثير السخرية هو ذلك الاتهام الذي قال فيه أردوغان إن «الأميركيين لن يستطيعوا الانسحاب من سورية لأنهم يحمون الإرهاب فيها»، فيما كل المصادر العالمية تجمع أن الإرهاب في سورية هو أنتاج أميركي تركي خليجي مشترك.
لكن الواضح أن تلكؤ الأميركيين بتحديد موعد جدي وحاسم لانسحابهم له علاقة بمعارك النصرة مع التنظيمات المماثلة والمدة التي تحتاجها للتوسّع في شمالي حلب وصولاً إلى الشمال الغربي.
فهل هذا يعني أن الأتراك على عداء مع النصرة؟ بالطبع لا، وإلا كيف تحميهم أنقرة في إدلب؟ وكيف تسمح لهم بضرب التنظيمات الموالية لها شمالي حلب؟
الواضح أن هناك صراعاً حاداً للفوز «بالنصرة» بين الأميركيين والأتراك، بدليل أن أردوغان يصعد هجومه الخطابي في وجه الأميركيين محتمياً بقوة احتلاله مناطق كبيرة في شمالي سورية وغربها بالشكلين المباشر والكامن من خلف تنظيمات محلية ومتنمّراً بواسطة حليفيه روسيا وإيران.
فإما أن يُذعن الأميركيون لمطالبه باحتواء النصرة أو يسهم بإضفاء تأييد إقليمي وازن لمؤتمرات سوتشي وأستانة كمرجعيتين أساسيتين لحل الأزمة السورية.
ماذا عن النصرة؟ هل تقبل بالتخلي عن مشروع «الإمارة الإسلامية» وتتحوّل طرفاً مدنياً معارضاً؟
النصرة مستعدة لفعل أي شيء يحولها طرفاً حصرياً مقابل الدولة السورية، ويردّد بعض أجنحتهم أن الإسلام أباح للمؤمنين به أكل لحم الخنزير في حالة الجوع القاهر مع عدم وجود أي نوع من الطعام، فهم اليوم يشبهون حالة المسلم المهدّد بالموت من الأميركي والتركي والدولة السورية ما يجيز لهم التعامل المرن مع هذه الظروف القاهرة.
يشكل هذا التبرير إنقاذاً للأميركيين يبعدهم عن الإدانة بالتعامل مع الإرهاب فيستطيعون بعدها القول إن النصرة تنظيم معارض ومدني لديه ايديولوجية وطنية لا تمييز فيها على أساس ديني ولا علاقة لهم بالقاعدة.
لكن حاجة النصرة للحدود التركية على مستوى التمويل والإسناد والدعم بالسلاح والذخيرة يجعلها مشروعاً تركياً وأميركياً في آن معاً، للزوم المرحلة المقبلة، أما لجهة الدولة السورية فإن للنصرة شكلاً إرهابياً دائماً مهما بالغت بالتنكر، فلا تعترف بالتالي بإمكان تحولها طرفاً مفاوضاً عن المعارضة السورية ولن تتأخر عن قتلها في كل وقت ومكان.
وكذلك بالنسبة لروسيا التي تفهم الحركة الأميركية فتبدو كالمنتصر المتربص لنهاية هذه الحركة الجديدة، والواثق من إمكانيته على جذب الأتراك نحو سوتشي وأستانة على قاعدة تراجع المشروع الأميركي بوسائل اقتصادية وجيوسياسية.
على المستوى الإيراني، فطهران في حرب مفتوحة مع الإرهاب المدعوم أميركياً ابتداء من الحصار الأميركي المفروض عليها وحتى ميادين سورية.
لذلك فإن إعادة إنتاج آليات إرهاب أميركية جديدة لن تكون أقوى من داعش ومئات آلاف الإرهابيين والتدخلات من كل حدب وصوب، الأمر الذي يؤكد أن الحلف السوري مع روسيا وإيران قادر على احتواء الإرهاب الجديد وتغيير تركيا بموازنات القوى المتنوعة.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/01/11