ماذا يعني قصفُ الجيش السوري لإدلب؟
د. وفيق إبراهيم
العمل العسكري في خدمة السياسة، مستخدماً العنف لتحقيق أهداف ترسمها الدولة. هذا هو التعريف القانوني، وينطبق على قصف الجيش السوري لمنطقة إدلب منذ يومين الذي استهدف ظاهراً هيئة تحرير الشام الإرهابية «النصرة»، لكنه أصاب ومن حيث لا يدري الدور التركي في سورية الذي يسيطر على إدلب وعفرين وجيب حدودي كبير. ويريد بناء منطقة آمنة بعمق ثلاثين كيلومتراً داخل سورية تمتد من جرابلس إلى المالكية المقابلة شرقاً لحدود العراق وقد يكتفي بأقل من ذلك استناداً الى اتفاقية أضنة.
فهل أصاب هذا القصف تفاهمات آستانا وسوتشي بين روسيا وإيران وتركيا؟ أم أنه رسالة سورية روسية إيرانية إلى «العثماني» الكامن في عواطف الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لإفهامه أن اللعب على التناقضات قد انتهى؟
للإشارة فإن الدولة السورية وتحالفاتها تعاملوا مع أكثر من مئة ألف إرهابي عالمي دخل معظمهم إلى سورية من حدود تركية بإشراف كامل من مخابراتها.
نفذ هؤلاء الإرهابيون ثلاثة أنواع من الاستراتيجيات.
أميركية غربية خليجية.
إسرائيلية.
تركية عثمانية.
بالمقابل وضعت الدولة السورية وتحالفاتها الروسية الإيرانية ثلاث استراتيجيات تدريجية:
فركّزت أولاً على الخطة الأميركية مع شيء من العناية بالتحرّكين الإسرائيلي والتركي ونجحت بالانتصار على كامل الإرهاب المدعوم والمموّل والمغطّى من الأميركيين والأوروبيين والخليجيين، حتى أن السعودية والإمارات وجدتا أن الحلف التركي القطري انتصر عليهما في عملية احتواء الإرهاب السوري والدليل أن الحليفة المشتركة لهما مع تركيا والأميركيين أي منظمة «داعش» انهارت ومعها بعض التنظيمات المتطرفة مقابل نمو النصرة الإرهابية وتنظيمات موالية لأنقرة التركية التحقت علناً وسراً بالمخابرات التركية.
أدّى هذا الانتصار السوري إلى إحباط أميركي تجسّد بإعلان نية واشنطن بالانسحاب من سورية وغضب إسرائيلي يحاول عرقلة مشاريع الحلول بمختلف مصادرها.
أما على المستوى الإسرائيلي، فتمكّنت سورية من إصابتها في دوريها، دعم الإرهابيين في مناطق القنيطرة والملاصقة للجولان المحتل وإرباك الجيش السوري بقصف متقطّع لمواقعه بذريعة أنها مراكز إيرانية أو لحزب الله.
وبدا أن انتصار سورية على مجاميع الإرهاب في محافظة حوران والقنيطرة ومجمل الجنوب السوري قضى على دور «إسرائيل» بإسناد الإرهابيين.
لجهة القصف فقد تمكّن الجيش السوري من استعمال منظومات دفاع جوي بوسعها التعامل النسبي مع القصف الجوي وتوسيعه ليصبح رداً على كامل مواقع الجيش الإسرائيلي في الجولان المحتل والكيان الإسرائيلي الغاصب.
وجاء إعلان أمين عام حزب الله في مقابلته التلفزيونية الأخيرة ليكشف عن معادلة العين بالعين والسن بالسن والصاروخ بصاروخين في سورية ولبنان والعراق معاً.
ماذا يعني هذا التطوّر؟
لا يمكن تفسيره إلا بأن الدور الإسرائيلي في سورية آخذٌ بالتراجع، لكنه يحاول البحث عن منظمات إرهابية أخرى او يترقب فشلاً في الحوار بين الدولة السورية والأكراد فيستفيد بعلاقة ما مع قوات سورية الديمقراطية أو ما يعادلها.
لا بد هنا من الانتباه إلى أن الاتراك لم يكونوا في هذه المرحلة في سبات عميق، وعندما لاحظوا أن الدور الأميركي السعودي لا يقبل بمشروع كونفدرالية كبرى للاخوان المسلمين وتبين لهم وجود اتجاه أميركي لإعادتهم إلى داخل بلدهم على قاعدة سحب العصب العثماني منهم بانقلاب عسكري كاد يطيح أردوغان لولا دعم سري من روسيا وإيران، كما تأكدوا أن الاطاحة بالرئيس الاخواني محمد مرسي في مصر قضت على آخر آمالهم بدولة عثمانية جديدة.
وكان الاتحاد الأوروبي بدوره أنهى طموحاتهم بالانتساب اليه وتأمين مداخيل اقتصادية جديدة للأتراك في مدى اوروبي واسع وتوفير فرص عمل لمئات الآلاف من الشبان الأتراك واستيراد وتصدير مزدهرين.
كل هذه الأماني الاردوغانية تهاوت ولم يبقَ لديه إلا سورية. وهذا تطلب من قادة انقرة الانفتاح على الروس وتعزيز مشروعهم السوري وتهدئة إيران.
هذه السياسة سمحت لهم ببناء تنظيمات إرهابية موالية لهم بشكل كامل وتأسيس منطقة آمنة داخل الحدود السورية والسيطرة على عفرين وادلب بواسطة النصرة وتنظيمات من صناعة مخابراتهم ونشر نقاط للجيش التركي في إدلب بموافقة من تفاهم استانا الذي يضم أيضاً روسيا وإيران.
هناك عناصر مستجدّة فرضت على سورية وروسيا الانتقال للتعامل مع الاستراتيجية العثمانية التركية.
فهذه الأخيرة كانت مستفيدة من تركيز سورية وحلفائها على المخاطر الأميركية الخليجية الإسرائيلية فنجحت في السيطرة على مناطق سورية وتهرّبت من تنفيذ التزامات بضرب الإرهاب في إدلب، وتواصل إطلاق قرارات استعدادها لغزو شمال سورية وشرقها، بالذريعة التي لم يعد أحدٌ يصدّقها وهي ضرورة ضرب حزب العمال الكردي الإرهابي، حسب زعمها، وهذا حزب تركي موجود عندها.
ضمن ضرورة إنهاء هذه الاستراتيجية العثمانية قصف الجيش السوري منطقة إدلب، في اشارة الى بدء مرحلة تصفية الاحتلال التركي لمناطق في سورية وإنهاء الدور العثماني السياسي فيها.
فهل يجري هذا الأمر من دون موافقة روسيا وإيران؟
إعلان لافروف ان تركيا لم تلتزم باتفاقات استانا إنما هو اشارة الى الموافقة الروسية على القصف السوري، وإدانة العودة التركية إلى اعتماد اساليب الفتنة العرقية بين العرب والأكراد والفرس من جهة والفتنة السنية الشيعية من جهة أخرى.
فالأتراك مصابون بإحباط من عودة بعض العرب إلى سورية ومشروع الانسحاب الأميركي منها، وتراجع الدور الإسرائيلي فيها، لذلك يصرون على تسويات مع أميركا وروسيا في منطقة آمنة عند الحدود زاعمين أنها من حقوقهم بموجب اتفاق اضنة في 1998 وهم الذين يخرقون هذا الاتفاق منذ 2001.
بالنتيجة فإن الدور السياسي التركي إلى تراجع مقابل صعود ملحوظ للدور السوري في الإقليم.
وهذا طبيعي لدولة تقاتل منذ ثماني سنوات في وجه تحالفات دولية وإرهابية غير مسبوقة بأحجامها.
لذلك تعود سورية إلى أداء دورين: داخلي وإقليمي لأنها نجحت في ارباك الاستعمار الجديد بدولتها وشعبها وجيشها الباسل.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/01/31